-->

الحنين في الشعر العربي

 مفهوم الحنين

أ - الحنين لغة

ب - اصطلالاحا

2 – الحنين في الشعر العربي

أ - الحنين في الشعر الجاهلي

ب - الحنين عند الشعراء المخضرمين

ج - الحنين في صدر الإلإسلالام

د - شعر الحنين في العصر الألأموي

ه - شعر الحنين في العصر العباسي

- 3 أنواع الحنين

أ - الحنين إلى الوطن والدیار

ب - الحنين إلى الحبيبة

ج - الحنين إلى الألأهل والألأقارب

د - الحنين إلى الصدیق والألأنيس

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 2 -

1 - مفهوم الحنين:

أ - الحنين لغة:

وبالرجوع إلى جذر الكلمة، هو الفعل الثلاثي "حنن" الذي طرأ عليه التضعيف - لغير

زیادة - فصار "حن" وتصریفه حن، یحن، حنينا.

وقد جاء في "لسان العرب" لابن منظور حنن: الحنان من أسماء الله الحسنى، قال ابن

الأثير: الحنان الرحيم بعباده.

والحنين الشوق وتوقان النفس، وقد (حن) إليه یحن - بالكسر- حنينا فهو حان، والحنان

الرحمة، وقد (حن) عليه یحن - بالكسر- حنانا( 1)، ومنه قوله تعالى: "وحنانا من لدنا وزآاة

.( وآان تقيا"( 2

وحننت الإبل: نزعت إلى أوطانها أو أولادها، والناقة تحن في إثر ولدها حنينا: تطرب

مع صوت، وقيل حنينها: نزاعها بصوت وبغير صوت والأآثر أن الحنين بالصوت.

والمستحن: الذي استحنه الشوق إلى وطنه، حنن: الحنين الشوق، وشدة البكاء. حن یحن

.( حنينا: استطرب، فهو آاستحن وتحان( 3

ب - اصطلاحا:

فالحنين معناه الشوق وتوقان النفس مع الطرب والتنغيم، وهو یكشف عن مدى معاناة

المغترب بعيدا عن وطنه.

والحنين من المشاعر النبيلة الإنسانية التي تهز آيان الإنسان فهو عاطفة تشد الفرد

بأهله مهما ابتعد المكان وطال الزمان واستحال اللقاء بعد الفراق.

2 – الحنين في الشعر العربي:

أ - الحنين في الشعر الجاهلي:

الحنين آظاهرة في الشعر العربي بدأت بوادرها منذ العصر الجاهلي، وتجسده ذلك

من خلال قصائد الغزل المتضمن للحنين إلى الحبيب، آما تجسد ذلك من خلال القصائد

، 1 - الإمام محمد بن أبي بكر عبد القادر الرازي: مختار الصحاح، دار الكتاب الحدیث، الكویت، ط 1

1994 م – 1414 ه)، ص 76 ، (مادة: حنن). )

. 2 - سورة مریم، الآیة 13

. 3 - الفيروز أبادي: القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406 ه، ط 1، ص 630

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 3 -

المشهورة بالمقدمات الطللية، وأجمل ما قيل في الحنين إلى الدیار والحبيب معا هو في

قصيدة امرئ القيس الشاعر الوجداني الذي صنفه النقاد وقدمه على سائر الشعراء وهم

یحتجون لذلك بأنه أول من وقف على الأطلال...( 4)، فهو الشاعر الذي وقف واستوقف

وبكى واستبكى على الأطلال في أسلوب أنيق.

:( یقول امرؤ القيس في معلقته( 5

قفا نبك من ذآرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فنوضح فالمقراة لم یعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل

آأني غداة البين یوم تحملوا لدى سمرات الحي ناقف حنضل

وقوفا بها صحبي علي مطيهم یقولون لا تهلك أسى وتجمل

وإن شفائي عبرة مهراقة فهل عند رسم دارس من معول

وجاء في شرح المعلقات السبع للزوزني أن سقط اللوى، الدخول، حومل، نوضح

والمقراة آلها أماآن، وسقط بين هذه المواضع الأربعة( 6) السابق ذآرها، وآانت حبيبته التي

هجرته تقيم بسقط اللوى، أین ترآت له ذآریات وهو في هذه المقدمة الطللية یحن إلى تلك

الأیام، ویتذآر فيها الدیار التي أصبحت أطلالا.

وأیضا من أصحاب المعلقات الشاعر العبسي عنترة بن شداد الذي تكبد عناء الترحال

وتألم من فراق عبلة ابنة عمه التي هجرته ورحلت بعيدا عنه، فاشتهر شعره بذآرها

وبحنينه إليها حتى في الوغى ومعارك القتال، فكان یخاطب في شعره الطير، باعثا معه

:( سلاما إلى عبلة قول مخاطبا طائر "البان" قائلا( 7

وطر لعلك في أرض الحجاز ترى رآبا على عالج أو دون نعمان

یسري بجاریة تنهل أدمعها شوقا إلى وطن ناء وجيران

ناشدتك الله یا طير الحمام إذا رأیت یوما حمول القوم فانعاني

وقل طریحا ترآناه وقد فنيت دموعه وهو یبكي بالدم الفاني

4 - الزوزني: شرح المعلقات السبع، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط 4، مصر

. 1988 ، ص 9

. 5 - د. علي الجندي: عيون الشعر العربي القدیم، دار غریب، مصر 2000 ، ص 13

. 6 - الزوزني: شرح المعلقات السبع، ص 11

. 7 - عنترة بن شداد: الدیوان، ص 101

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 4 -

وهنا یشكو الطائر الحمام عن همومه آملا أن یصله خبر عن من فارق من الأهل

:( والخلان. وفي البكاء على الأطلال یقول أیضا( 8

لمن طلل بالرقمتين شجاني وعاثت به أیدي البلى فحكاني

وقفت به والشوق یكتب أسطرا بأقلام دمعي في رسوم جناني

ألا یا غراب البين لو آنت صاحبي قطعنا بلاد الله بالدوران

عسى أن نرى من نحو عبلة مخبرا بأیة أرض أو بأي مكان

أیا عبل لو أن الخيال یزورني على آل شهر مرة لكفاني

لئن غبت عن عيني یا ابنة مالك فشخصك عندي ظاهر لعياني

وهنا نجد الغراب ویخبره عن شوقه وحنينه لعبلة مسائلا إیاه عن أخبارها وفي

الأخير، یقول بأنه رغم غياب عبلة عنه إلا أنها دائما في فكره ولا ینسى ذآرها. وفي

:( قصيدة أخرى أیضا تفيض شوقا لعبلة یسائل فيها خليله أي الطائر وفيها یقول( 9

یا عبل ما دام الوصال لياليا حتى دهانا بعده الهجران

ليت المنازل أخبرت مستخبر أین استقر بأهلها الأوطان

یا طائر قد بات یندب إلفه وینوح وهو موله حيران

عرني جناحك واستعر دمعي الذي أفنى ولا یفنى له جریان

حتى أطير مسائلا عن عبلة إن آان یمكن مثلي الطيران

وهنا یتمنى الطيران لكي یقدر على التنقل بحثا عن حبيبته عبلة وذلك بالاستعانة

بالطائر إذ یرید استعارة جناحه مقابل دموعه التي لا تفنى، وقد آثر في شعر عنترة توظيف

:( الطائر ذي آان رفيقه الوحيد بعد هجران عبلة ونأیها عنه واستحالة الوصال إذ یقول( 10

أحن إلى تلك المنازل آلما غدا طائر في أیكة یترنم

بكيت من البين المشت وإنني صبور على طعن القنا لو علمتم

ولعل خطاب عنترة للطير عائد لكثرة تنقله وتهجره فيبعث معه تحياته للخلان وسلامه

إليهم.

. -8 المصدر نفسه، ص 102

. 9 - المصدر نفسه، ص 103

. 10 - المصدر نفسه، ص 91

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 5 -

:( وأیضا من أصحاب المعلقات طرفة بن العبد (ت 60 ق ه) یقول( 11

قفي ودعينا اليم یا ابنة مالك وعوجي علينا من صدور حمالك

قفي لا یكن هذا تعلة وصلنا لبين، ولا ذا حظنا من نوالك

أخبرك أن الحي فرق بينهم نوى غربة ضرارة لي آذلك

تعير سيري في البلاد ورحلتي ألا رب دار لي سوى حر دارك

وليس امرؤ أفنى الشباب مجاورا سوى حيه إلا آآخر هالك

فهنا نجد عاطفة طرفة صادقة نابعة من أعماقه، إذ یعبر عن حنين یغمره، ویشبه

مجاورته لغير حية وأهله بالهلاك لأنه لا یحتمل الغربة والفراق.

:( ویقول لبيد بن ربيعة بن مالك العامري في مقدمة معلقته( 12

عفت الدیار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها

وفي شرحه لهذا البيت یقول الزوزني صاحب (شرح المعلقات): "عفت دیار الأحباب

وانمحت منازلهم ما آان منها للحلول دون الإقامة وما آان منها لارتحال قطانها ورجالمها

راجعة إلى الدیار، آقوله تأبد غولها: أي دیار غولها ورجامها، راجعة إلى الدیار، فحذف

المضاف".

ولم یكن الحنين مقتصرا على أصحاب المعلقات في المقدمة الطللية والغزل فحسب بل

نجده أیضا عند شعراء آخرین في الجاهلية آالنابغة الذبياني، إذ نجده یصف لنا حنينه إلى

:( الدیار في قوله( 13

یا دار مية بالعلياء، فالسند أقوت، وطال عليها سالف الأبد

وقفت فيها أصيلانا أسألها عيت جوابا، وما بالربع من أحد

أمست خلاء، وأمسى أهلها احتملوا أخنني عليها الذي أخنى على لبد

آأن رحلي، وقد زاد النهار بنا یوم الجليل على مستأنس وحد

فالشاعر یقف على الأطلال یسأل عن أهل تلك الدیار الذین رحلوا وترآوها خلاء.

. 11 - طرفة بن العبد: الدیوان، ص 21

. 12 - الزوزني: شرح المعلقات السبع، ص 216

.18 - 13 - النابغة الذبياني: الدیوان، ص 17

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 6 -

:( ویقول سلامة بن جندل التميمي (ت 600 م) في الحنين والرحلة( 14

هاج المنازل رحلة المشتاق دمن وآیات لبثن بواقي

للحارثية قبل أن تأى النوى بهم وإذ هي لا ترید فراقي

فوقفت فيها ناقتي، فتحننت لهوى الرواح تتوق آل متاق

والحنين في هذه الأبيات متبادل بين الشاعر ومحبوبته التي لا ترید فراقه وقد أجبرت

على الترحال.

:( ویقول عمرو بن قميئة ( 448 م - 540 م) وقد آان حسن الوجه مدید القامة( 15

تحن حنينا إلى مالك فحنى حنينك إلى معالي

إلى دار قوم حسان الوجوه عظام القباب طوال العوالي

إن قلبي عن تكتم غير سالي تيمتني، وما أرادت وصالي

فالشاعر من خلال هذه الأبيات یشكو من لوعة الفراق، وله في الحنين إلى الدیار

:( والوقوف على الأطلال شعر یفيضحنينا فيقول( 16

أمن طلل قفر ومن منزل عاف عفته ریاح من مشات وأصياف

بكيت وأنت - اليوم- شيخ مجرب على رأسه شرخان من لون وأصناف؟

فارتباط الشاعر بدیاره لا یزول، وذآره للمنازل لا ینقطع وإن صارت أطلالا فالشاعر

یحمل معه ذآریاته التي تعلقت بالأماآن التي شب فيها وعاش أیامه الخالية في آل زاویة

من زوایاها.

ومن الشعراء الذین طرقوا موضوع الحنين في شعرهم نجد زهير بن أبي سلمى

:( ویقول بهذا الصدد مكتویا بنار الفراق في هذه الأبيات( 17

إن الخليط أجد البين فانفرقنا وعلق القلب من أسماء ما علقنا

وفارقتك برهن لا فكاك له یوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا

وزهير بن أبي سلمى، من شعراء المعلقات وصاحب شعر بليغ ذو جودة وقد وفق في

. 14 - سلامة بن جندل: الدیوان، ص 6

.12 - 15 - عمر بن قميئة: الدیوان، ص 11

. 16 - المصدر نفسه، ص 13

.29 - 17 - زهير بن أبي سلمى: الدیوان، ص 19

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 7 -

آل الأغراض التي طرقها خاصة ما تعلق بتجاربه وبحياته الخاصة وموضوع الحنين آان

ميزة من ميزات شعره، فكانت عاطفته صادقة، تتغنى أشعاره بالشوق والحنين وهو یعاني

آلام الفقد، ومرارة الفاجعة وآما حدث في قصته مع افتقاد الولد، إذ مر بتجربة مفجعة وذلك

لفراق ابنهم "سالم" الذي آان جميل الوجه حسن الشعر، فأهدى رجل إلى زهير بردین،

فلبسهما الفتى ورآب فرسا له، فمر بامرأة من العرب بماء یقال له: "النتاءة" فقالت: ما

رأیت آاليوم قط رجلا ولا بریدین ولا فرسا، فعثر به الفرس فاندقت عنقه وعنق الفرس

وانشق البردان، فقال زهير یرثي ولده مفجوعا لفراق ابنه سالم الذي مات وهو في ریعان

:( شبابه( 18

رأت رجلا لاقى من العيش غبطة وأخطأه فيها الأمور العظائم

وعندي من الأیام ما ليس عنده فقلت له مهلا فإنك حالم

لعلك یوما أن تراع بفاجع آما راعني یوم النتاءة سالم

:( ویقول الأعشى (ت 7 ه - 729 م) ( 19

بانت سعاد وأمسى حبلها رابا أحدث النأي لي شوقا وأوصابا

وأجمعت صرمنا سعدى وهجرتنا لما رأت أن رأسي اليوم قد شبا

فالشاعر في هذه الأبيات یتغزل بسعاد ویشكو الفراق، وفي أبيات أخرى في الحنين

:( یقول( 20

خالط القلب هموم وحزن وادآار بعدما آان اطمأن

فهو مشغوف بهند هائم یرعوي حينا، وأحيانا یحن

فالأعشى هنا یصف مرارة الفراق في القلب، وشدة الحزن بعد الاطمئنان.

ب - الحنين عند الشعراء المخضرمين:

من الشعراء المخضرمين الذین نظموا الشعر في الجاهلية والإسلام: الخنساء، وحسان

بن ثابت، والنابغة الجعدي، وآعب بن زهير... وغيرهم من الشعراء الذین إلى الدیار آما

جاء في قصائد آعب بن زهير (ت 24 ه) والحنين إلى الأیام الصبا تحسر فيها على أیام

.54 - 18 - المصدر نفسه، ص 35

. 19 - الأعشى: الدیوان، ص 16

. 20 - المصدر نفسه، ص 195

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 8 -

:( الشباب( 21

بان الشباب والشيب قد أزفا ولا أرى لشباب ذاهب خلفا

عاد السواد بياضا في مفارقه لا مرحبا بهذا اللون الذي ردفا

ليت الشباب حليف لا یزایلنا بل ليته ارتد منه بعض ما سلفا

آما له قصائد غزلية آقصيدة البردة التي آتبها مادحا "الرسول صلى الله عليه وسلم"

:( والتي یقول في مطلعها في حنينه( 22

بانت سعاد فقلبي اليوم مبتول متيم إثرها لم یجز مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلا أغن عضيض الطرف مكحول

أمست سعاد في أرض لا یبلغها إلا العتاق النجيبات المراسيل

وفي الأبيات یشكو الشاعر لوعة فراق سعاد فهو مفجوع ومتألم لهجرانها وحنينه إليها

:( یعذبه. ویقول أیضا في فراق "نوار"( 23

ووقفت فيها قليلا ریث أسألها فانهل دمعي على الخدین منسحقا

حلت نوار بأرض لا یبلغها إلا صموت السرى تسأم العنقا

یا ليت شعري وليت طيري تخبرني أمثل عشقي یلاقي آل من عشق

الشاعر في هذه الأبيات یصف إحساسه النابغ من قلب مفجوع بفراق حبيبته التي بكى

فراقها وبعدها عنه. وإذا آان الغالب فيما سبق من شعر آعب بن زهير هو الحنين إلى

المحبوبة، فإننا نلمس الحنين بأنواعه عند آثير من الشعراء المخضرمين آموضوع الحنين

المرتبط بالرثاء وبكاء الأهل والخلان آما هو حال الشاعرة تماضر بنت عمرو بن الشرید

الملقبة بالخنساء (ت 46 ه)، التي اشتهرت ببكاء أخيها صخر الذي فجعت بقتله هو

وأخوهما معاویة فقد رثت الخنساء أخویها خاصة صخر الذي ذآرته في معظم شعرها، لأن

حزنها على فراقه آان شدیدا حتى صارت مضرب المثل في رثاء أخویها، وآان أشد

:( جزعها على صخر مع أنه لم یكن خليصها، فتقول في بكاء صخر( 24

. 21 - آعب بن زهير: الدیوان، ص 18

. 22 - المصدر نفسه، ص 29

.23 - 23 - المصدر نفسه، ص 22

.65 - 24 - السيد آاظم الكفائي: عصور الأدب العربي، مطبعة الإرشاد، بغداد 1968 م، ص 64

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 9 -

أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى؟

وتقول أیضا:

ألا یا صخر إن أبكيت عيني فقد أضحكتني زمنا طویلا

دفعت بك الخطوب وأنت حي فمن ذا یدفع الخطب الجليلا

إذا قبح البكاء على قتيل رأیت بكاءك الحسن الجميلا

وهذه الأبيات لهي دليل على حب الشاعرة لأخيها، وعلى انكوائها بنار الفاجعة وهول

الفراق الذي أبكاها زمنا طویلا، " لكن بمرور الأیام وتقدمها في السن هدأت زفرتها

وتجلببت برداء الصبر والإیمان بالله ورسوله، وقد استشهد أولادها الأربعة في حرب

.( القادسية وهي صابرة محتسبة"( 25

ومن الشعراء المخضرمين حسان بن ثابت (ت 54 ه) شاعر الرسول "صلى الله

:( عليه وسلم" الذي تألم لفراق الرسول فأحسن رثاءه( 26

فبكي رسول الله یا عين عبرة ولا أعرفنك - الدهر- دمعك یجمد

فجودي عليه بالدموع، وأعولي لفقد الذي لا مثله - الدهر- یوجد

لقد آان لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وقع في قلوب المسلمين وأثر شدید في

نفوسهم من شدة الحزن على فراقه وهذا نجده في شعر شاعر الرسول صلى الله غليه وسلم

الذي بكى وفاته بحرقة وتألم لرحيل خير خلق الله الذي آان من صحابته فكان حنينه

للرسول عارما وإحساسه بالفراق مؤلما.

ج - الحنين في صدر الإسلام:

بظهور الإسلام استجدت عند المشارقة الأحوال وتبدلت، فعاش المسلمون في ظروف

اختلفت عما آانت غليه في الجاهلية، وبالضرورة استجدت أنماط ومواضيع الشعر إلا أن

موضوع الحنين بقي متداولا عند الشعراء إلا موضوع لحنين إلى الوطن والأهل على ألسنة

الجنود الفاتحين في عصر صدر الإسلام، الذین ابتعدوا عن الأهل والأحبة من خلال

خروجهم في جيش الفتح الإسلامي إذ نجد مالك بن ریب یشكو غربته وحنينه لأهله

. 25 - المرجع نفسه، ص 63

. 26 - المرجع نفسه، ص 64

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 10 -

:( ودیاره( 27

تذآرت من یبكي علي فلم أجد سوى السيف والرمح الردین باآيا

أقلب طرفي فوق رحلي فلا أرى به من عيون المؤنسات مراعيا

وبالرمل مني نسوة لو شهدنني بكين وفدین الطبيب المداویا

فمنهن أمي وابنتاها وخالتي وباآية أخرى تهيج البواآيا

فالشاعر هنا یصف حاله حين شارف على الموت لا یتمنى سوى أن یزور بلاده،

وینام فيها ليلة، وهو أیضا یحن إلى الذین آانوا یشفقون عليه ویعطفون.

ومن الشعراء الإسلاميين أیضا عمر بن أبي ربيعة الذي آتب إلى الثریا وهي في

:( مشتاقا یقول( 28

آتبت إليك من بلدي آتاب موله آمد

آئيبا وآف العينين بالحسرات منفرد

یؤرقه لهيب الشو ق بين السحر والكبد

فيمسك قلبه بيد ویمسح عينه بيد

والشاعر في هذه الرسالة یصف لنا أشواقه إلى الثریا وحنينه إليها في أسلوب إنيق

یشير من خلاله إلى صدق عواطفه التي تبدو حساسة لأن الشوق أحزن الشاعر وأدمع عينيه

وأرقه مما اضطر الشاعر للكتابة تعبيرا منه عن ألمه لفراق حبيبته.

د - شعر الحنين في العصر الأموي:

إن شعر الحنين في العصر الأمي جاء مخاطبا للمحبوبة، في قالب الغزل أآثر منه

حنينا إلى الدیار آما هو الحال في العصور السابق ذآرها ولعل أآثر من غلبه الشوق

والحنين إلى المحبوبة جميل بن معمر الذي لم یكن مخيرا في هجران محبوبته بثينة

:( فيقول( 29

هاجت فؤادك للحبيبة دار أقوت وغير آیها الأمطار

لم وقفت بها القلوص تبادرت مني الدموع وهاجني استعبار

. 27 - القاضي النعمان عبد المتعال: شعر الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام، ص 196

. 28 - السيد آاظم الكفائي: عصورالأدب العربي، ص 69

. 29 - جميل بن معمر: الدیوان، ص 410

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 11 -

فهنا الشاعر یبكي لفراق بثينة وبعدها عنه بمشاعر صادقة یعبر فيها عن مدى شوقه

وحبه لها. وفي قصيدة أخرى یصف فيها حاله بعد فراق محبوبته التي آل إليها یقول في هذه

:( الأبيات البليغة( 30

خليلي فيما عشتما هل رأیتما قتيلا بكى من حب قاتلها قلبي

فإن وجدت نعل بأرض مضلة من الأرض یوما فاعلمي أنها نعلي

أبيت مع الهلاك وضيفا لأهلها وأهلي قریب موسعون ذو وفضل

فهنا جميل ابتدأ بكلمة "خليلي" وهي بصيغة المثنى تقليد الشعراء الجاهليين، والشاعر

في هذه الأبيات یصف حبه وحنينه لفراقها بحيث یقول أنه یبيت في العراء مع الهلاك وهم

الصعاليك، وأهله موسوعون قریبون منه، فنجد الشاعر قد برع في تصویر شوقه ومدى

معاناته لفراق بثينة وعيشه مع الصعاليك بعيدا عن أهله ودفء منزله، لكن حبه لها

:( وتضحية من أجلها جعلاه یتحمل آل الصعاب. ویقول أیضا( 31

خليلي عن لم تبيا لي ألتمس خليلا إذا أنزفت دمعا بكى ليا

وقال خليلي: إن تيماء موعد لبثن إذا ما الصيف ألقى المراسيا

فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت فما للنوى ترمي بليلي المراميا

ألم تك إذ أهلي وأهلك جيرة تخبرني إن بنت ألا تلاقيا

وما زادني انأي المفرق بيننا سلوا ولا طول التلاقي تلاقيا

"التلاقي" في البيت الأخير: الأولى تعني التباغض.

ومن العشاق أیضا مجنون ليلى: قيس بن الملوح بن مزاحم العامري (ت 25 ه) أحب

ليلى بنت سعد من بني ربيعة وأحببته، ولما علم الناس بحبهما، لامه أهله وحاولوا منعه

عنها فامتنع عن أمرهم مما أجبرهم على الترحال، ثم أآرهت على الزواج من ورد بن

:( محمد وفي ليلى أنشد هذه الأبيات( 32

أراد الله محلك في السلامى إلى من بالحنين تشوقينا

ولست وإن حننت أشد وجدا ولكني أسر وتعلنينا

. 1996 م، ص 36 ، 30 - إميل ناصيف: أروع ما قيل في الوجدانيات، دار الجيل، بيروت، ط 1

. 31 - المرجع نفسه، ص 37

. 32 - المرجع نسه، ص 48

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 12 -

:( ویقول في حنينه إلى أیام الوصال قبل الهجران( 33

تذآرت ليلى والسنين الخواليا وأیام لا تخشى على اللهو ناهيا

ومن الشعراء الأمویين أیضا قيس لبنى وهو قيس بن ذریح بن سنة الذي أحب لبنى

وتزوجها، وبعد ذلك طلقها منه أبوه لأنها لا تنجب فأنشد فيها شعرا وهي مطلقة منه ومن

:( حنينه إليها هذه الأبيات( 34

ألا حي لبنى اليوم إن آنت غادیا وألمم بها من قبل أن تلاقيا

وإني لأستغشي وما بي نعسة لعل خيالا منك یلق خياليا

خليلي مالي قد بليت ولا أرى لبيني على الهجران إلا آما هيا

ألا یا غراب البين مالك آلما ذآرت لبيني طرت لي عن شماليا

فالشاعر متألم لبعد لبنى عنه فهو عاجز عن تحيتها بعد أن طلقها، لهذا فهو یطلب من

العادي نحوها أن یحييها عنه، آما یشكو من الأرق ویطلب النعاس لكن ذآرى لبنى تصرف

:( النعاس عنه ولأنه نادم یلوم نفسه، هذا في أبيات أخرى یقول( 35

فأصبحت الغداة ألوم نفسي على شيء وليس بمستطاع

آمغبون یعض على یدیه تبين غبنه بعد البياع

ویقول الصمة القشيري في الحنين إلى صاحبته "ریا" ووطنه للدلالة على طریقة

:( تناولهم لموضوع الحنين في الشعر( 36

حننت إلى "ریا" ونفسك باعدت مزارك من "ریا" وشعبا آما معا

قفا ودعا نجدا ومن حل بالحمى وقل لنجد عندنا أن یودعا

بنسي تلك الأرض ما أطيب الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا

ولما رأیت الشر أعرض دوننا وجالت بنات الشوق یحنن نزعا

"ریا" هي صاحبته التي افترق عنها، و"البشر" اسم جبل، الشاعر في هذه الأبيات

یصف شوقه على إلى ریا وإلى موطنه وأهله. ومن شعراء العصر الأموي جریر الذي آثر

. 33 - المرجع نفسه، ص 48

. 34 - المرجع نفسه، ص 41

. 1932 ، ص 240 ، 35 - ابن قتيبة: الشعر والشعراء، تحقيق مصطفى أفندي، ط 2

. 1996 ، ص 51 ، 36 - إميل ناصيف: أروع ما قيل في الوجدانيات، دار الجيل، بيروت، ط 1

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 13 -

:( الحنين في شعره، خاصة الوقوف والبكاء على الأطلال رغم نبوغه في الهجاء، یقول( 37

شاق قلبي تذآر الأحباب واعترتني نوائب الأطراب

:( فهو یحن إلى الأحباب، ویقول أیضا راثيا زوجته( 38

لولا الحياء لهاجني استعبار ولزرت قبرك والحبيب یزار

فلقد أراك آسيت أحسن منظر ومع الجمال سكينة ووقار

لا یلبث القرا ناء أن یتفرقوا ليل یكر عليهم ونهار

فجریر من خلال هذه الأبيات یحن إلى زوجته المفقودة.

ه - شعر الحنين في العصر العباسي:

لقد تميزت أشعار العهد العباسي في معظمها بغياب العاطفة الصادقة وبالتصنيع

والتجدید، ونلمس هذه المميزات في المدح بصفة خاصة لأنه آان خال من الصدق فهو في

غایته مدح لأجل التكسب، آما نلمسها في غيره من الأغراض آالرثاء والغزل ولكن بالرغم

من ذلك لا یمكن تعميم الحكم، والدليل أن من الشعراء من عرف الفاجعة ومر بظروف

أليمة في حياته، فقد تميزت بعض الأشعار بعاطفة الحزن من جراء الفقد والفراق

والاغتراب، فكانت أشعارا وجدانية تتغنى بالحنين، مؤثرة في نفس القارئ لأنها آانت

تروي ما یمر به الشاعر من تجارب مؤلمة في وصف دقيق لحالته النفسية.

والحنين ظاهرة ميزت بعض الأشعار في العهد العباسي في المرثيات أو في قصائد

الغزل أو في شعر الغربة، ومن أآثر شعراء العصر العباسي تجرعا لمآسي الشاعر ابن

العباس بن جریح المعروف بان الرومي ( 835 م – 896 م) الذي توالت عليه المحن إذ

مات والده، ثم أخوه في عز شبابه، ثم أبناؤه الثلاثة وزوجته، آما التهمت النيران بعض

أملاآه واغتصب الظلم البعض الآخر.

وله دیوان یذآر فيه رثاءه، ولوعة الفراق، وشفاءه من الفراق، ووحشته، وسهره في

الظلمات، ودموعه. ومن یقرأ شعره یحزن للشاعر أآثر مما یحزن على الفقيد( 39 )، وفي

. 37 - السيد آاظم الكفائي: عصور الأدب العربي، ص 71

. 38 - إميل ناصيف: أروع ما قيل في الوجدانيات، ص 55

. 39 - إميل ناصيف: المصدر السابق، ص 82

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 14 -

:( رثاء ولده الأوسط( 40

إني وإن متعت بابني بعده لذاآره ما حنت النيب في نجد

وأولادنا مثل الجوارح أیها فقد آان الفاجع البين الفقد

محمد ما شيء توهم سلوة لقلبي إلا زاد قلبي من الوجد

وأنت وإن أفردت في دار وحشة فإني بدار الأنس في وحشه الفرد

یبدو ابن الرومي من خلال هذه الأبيات مفجوعة لفراق ولده، فنجد عاطفته نابعة من

قلب صادق عرف مرارة فقد الابن، فهو یقارن حنينه لابنه بحنين الناقة المسنة في نجد أي

أنه سوف یذآره إلى أن یموت آانقطاع حنين النيب لفنائها.

ومن جهة أخرى نجد أن العصر العباسي امتاز بأشعار تغلبها الصنعة اللفظية وبراعة

التشبيه، أآثر من صدق وتدفق العواطف، فكان مدحهم بغرض التكسب والمنصب،

:( ورثاؤهم متكلفا آما جاء في مرثية أبي العلاء المعري لأبي حمزة( 41

ودعا أیها الحفيان ذاك الشخص إن الوداع أیسر زاد

واغسلاه بالدمع إن آان طهرا وادفناه بين الحشي والفؤاد

وهذه الأبيات في ظاهرها تبرز مدى وقع فراق أبي حمزة في نفس الشاعر ومكانته

في قلبه الذي فجع بفراقه.

آما نلمح مظاهر المبالغة والتكلف في الحزن مما یعطي القصيدة طابع الكآبة والزیف

معا، ففي أشعار أبي العتاهية حنين یختلف عن حنين غيره من الشعراء، فهو في شعره

:( یشكو غربته في الدنيا التي یبدو ناقما عليها فيقول( 42

آأني بالدیار قد خربت وبالدموع الغزار قد سكبت

من لم یسعه الكفاف مقتنعا ضاقت عليه الدنيا بمار حبت

نحن في دار بلاء وأذى وشفاء وعناء وعنت

منزل ما یثبت المرء به سالما إلا قليلا إن ثبت

. 40 - المرحع نفسه، ص 84

، 41 - سراج الدین محمد: موسوعة مبدعون (الرثاء في الشعر العربي)، دار الكتب، بيروت، ط 1

. 2000 ، ص 44

.25 - 42 - أبو العتاهية: الدیوان، ص 24

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 15 -

:( ویقول أبو فراس الحمداني ( 320 ه- 357 ه)( 43

أراني وقومي فرقتنا مذاهب وإن جمعتنا في الأصول مناسب

فأقصاهم أقصاهم من مساءتي وأقربهم مما آرهت الأقارب

غریب وأهلي حيث ماآرنا ناظري وحيد وحولي من الرجال عصائب

فالشاعر یشكو غربته ووحدته بالرغم من وجود رجال من حوله.

هذه هي مراحل شعر الحنين عند المشاقة التي بدأتها بالعصر الجاهلي ثم العصر

الإسلامي والأموي إلى غایة العصر العباسي، هذا عند المشارقة، لكن البدایة الحقيقية

لظاهرة الحنين في الشعر العربي آانت بدایة عصر الدولة الأمویة في الأندلس نتيجة

الاغتراب وسقوط المماليك.

فالمشارقة لهم فضل السبق إلى شعر الحنين لكن الأندلسيين توسعوا فيه أآثر من

المشارقة من حيث الجودة والوفرة وقوة وصدق العاطفة، والسبب یعود لسقوط المدن

الأندلسية على ید الإسبان، فعاش الأندلسيون الاغتراب والتهجير، وفراق الأهل، فذاقوا

مرارة التشتت والضياع، في السجون الذي ولد الشعور بالوحدة والشوق للأندلسيين

والصاحب.

فنظم الشاعر وهو في السجن، آما نظم في الحنين إلى محبوبته ووطنه والظاهر التي

ميزت شعر الأندلسيين هي رثاء المدن التي توالى سقوطها الواحدة تلو الأخرى، ولعل

القصيدة التي أرخت لمثل هذه الأحداث هي مرثية أبي البقاء الرندي الذي بكى مدن الأندلس

:( وتحصر على حالها الذي آلت إليه من خراب ودمار فيقول( 44

دهى الجزیرة أمر لا عزاء له هوى له أحد وأنهد ثهلان

فاسأل بلنسية: ما شأن مرسية وأین شاطبة أم أین جيان

وأین قرطبة دار العلوم، فكم من عالم قد سما فيها له شأن؟

وتبكي الحنيفية البيضاء من أسف آما بكى لفراق الإلف هيمان

43 - محمد عبد المنعم خفاجي: الآداب العربية في العصر العباسي الثاني، دار الطباعة الحدیثة، مصر،

. (د. ت)، ص 196

44 - علي جواد الطاهر وعبد الغفار الحبوبي وعبد الرضا صادق: المنهل في الأدب العربي، مطبعة

. المعارف، بغداد 1962 م، ص 197

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 16 -

على دیار من الإسلام خالية وقد أقفرت ولها بالكفر عمران

هذا الشاعر یذآر (بلنسية – مرسية – شاطب – جيان - قرطبة) وهي مدن أندلسية،

وأبو البقاء یرثي هذه المدن لأنه عاصر سقوطها وآان لهذا أثر عميق دفعه إلى تسجيل

الأحداث من خلال هذه القصيدة.

فقد أصاب المسلمين في الأندلس باستلاء الإسبان عليهم وعلى مدنهم أمر عظيم، فلقد

خلت البلاد من الإسلام وأصبحت المساجد آنائسها.

-3 أنواع الحنين:

تعددت أنواع الحنين فمن بينها (الحنين إلى الدیار - الحنين إلى الحبيبة - الحنين إلى

الأهل والأقارب - الحنين إلى الصدیق - الحنين إلى الماضي والشباب).

أ - الحنين إلى الوطن والدیار:

ویتمثل الحنين إلى الوطن في الشعر العربي في الوقوف على الأطلال والبكاء حرقة

من الشوق إلى العودة إلى الوطن البعيد الذي سكن حبه في قلب الشاعر منذ الصغر، فحب

الوطن عاطفة إنسانية نبيلة تنمي الشعور بالانتماء إلى للقبيلة وللقوم وللأرض. فكان ارتباط

الشاعر بالأرض التي شب فيها قویا لا یتخير مع مرور الزمان وبعد المكان، وقد ذآر ابن

الرومي العلة التي یحب الوطن لأجلها أنه لا یستطيع أحد أن یعيش هنيئا في بعد عنه

:( یقول( 45

ولي وطن آليت ألا أبيعه ولا أرى غيري له الدهر مالكا

فقد ألفته النفس حتى آأنه لها جسد لولاه غودرت هالكا

وحببت أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالك

وإذا اذآروا أوطانهم ذآرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلك

:( ویقول امرؤ القيس( 46

ألا عم صباحا أیها الطلل البالي وهل یعمن من آان في العصر الخالي

لقد عرف العربي حب الوطن والحنين إليه منذ أقدم الأزمان فحمل لنا الشعر العربي

، 45 - د. عبد العزیز عتيق: الأدب العربي في الأندلس، دار النهضة العربية، ط 2، بيروت 1976

. ص 217

. 46 - امرؤ القيس: الدیوان، ص 21

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 17 -

صورا رائعة من أشواق الشعراء إلى أوطانهم ومرابعهم ومراتع صباهم، آما جاء في

المقدمة الطللية لمعلقة امرؤ القيس التي سبقت ذآرها في البحث الثاني من هذا الفصل.إن

الشعور بالانتماء واضح من خلال الشعراء إلى أوطانهم، وقد بين الله عز وجل فضل

الوطن وآلف النفس بالتضحية في سبيله في قوله تعالى: "ولو أنا آتبنا عليهم أن اقتلوا

.( أنفسكم أو اخرجوا من دیارآم، ما فعلوه إلا قليلا منهم"( 47

:( ویقول أحد الشعراء في موضوع الغربة وهو أبو بكر محمد الزبيدي( 48

الفقر في أوطاننا غربة والمال في الغربة أوطان

فهو یعتبر الوطن متعلق بالوضع المادي للإنسان، وأن المال قد یغني عن الوطن

الحقيقي ویحل مكانه في دیار الغربة، لكن هذا لي المعلقات المشهورة وغيرها من قصائد

الشعراء المتغنية بحب الوطن والحنين للعودة إليه بعد الترحال، وطول البعد وتجسد ذلك في

استهلالهم بذآر المنازل والقفار والوقوف على الأطلال وبكائها، فكانوا یبدؤون قصائدهم

بالحنين إلى الدیار لأهمية ذلك عندهم.

:( یقول أبو الحسن العنبسي( 49

إن عاد لي وطني اعترفت بحقه إن التغرب ضاع فيه عمري

وهنا یبرز الشاعر قيمة الوطن فهو یعتبر ما أمضاه من عمره في الغربة ضائع من

حياته، آما یرجو عودة وطنه إليه ليعترف بحقه. ویقول المتنبي یشكو غربته ویشبهها بغربة

:( الأنبياء( 50

وما مقامي بأرض نخلة إلا آمقام المسيح بين اليهود

أنا في أمة تدارآها الله غریب آصالح في ثمود

فالشاعر یبرز من خلال أبياته معاناة المغترب بعيدا عن وطنه وأهله، وهذا یوحي بأن

هناء واطمئنان النفس في موطنها لا في سواها.

ب- الحنين إلى الحبيبة:

. 47 - سورة النساء، الآیة 66

، 48 - سراج الدین محمد: الحكمة في الشعر العربي (موسوعة روائع الشعر العربي)، دار الراتب، ط 1

. بيروت (د. ت)، م 1، ص 70

. 49 - المصدر نفسه، ص 71

. 50 - المتنبي: الدیوان، شرح أبي البقاء العكبري، مصر، ج 1، ص 341

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 18 -

لقد برع الشعراء العرب في غرض الغزل فطرقوا مواضيع مختلفا فيه آالحنين إلى

المعشوق المفارق، فاشتهرت القصص الرومانسية المؤرخة للشعراء العشاق أمثال قيس

وليلى، وقيس ولبنى، وجميل وبثينة، وعنترة وعبلة ولعل أشعار هؤلاء العشاق ما جعلها

تتصدر جميع قصص الحب عند العرب، فكل شاعر له تجربة الفراق والهجران والمعاناة

:( من طول البعاد وفي هذا الموضوع یقول جميل بن معمر( 51

أبثينة إنك ملكت فاسجحي وخذي بحظك من آریم واصل

فلرب عارضة علينا وصلها بالجد تخلطه بقول الهازل

فقد اشتهر جميل بحب بثينة واآتوى بنار فراقها، فجاءت قریحته بشعر یفيض حنينا.

آما أن عنترة بن شداد العبسي بحبه لعبلة التي فرق بينهما القدر رغم القرابة بينهما

لأن عمها شداد الذي أنجبه من عبدة عنده فلم ینسبه إليه وحال دون وصاله عمه مالك ومنعه

من رؤیتها وتزوجت رجلا آخر، لكن عنترة بقي على حبها وزاد شوقه إليها، فكان یتغزل

:( بها مفتخرا بنفسه في شعر تميز بحسن التصویر فيقول( 52

قف بالدیار وصح إلى بيداها فعسى الدیار تجيب من ناداها

دار لعبلة شط عنك مزارها ونأت لعمري ما أراك تراها

یا صاحبي قف بالمطایا ساعة في دار عبلة سائلا مغناها

:( ویقول أیضا( 53

ولقد ناح في الغضون حمام فشجاني حتيته والنحيب

بات یشكو فراق ألف بعيد وینادي: أنا الوحيد الغریب

فاترآي الوجد والهوى لمحب قلبه قد أذابه التعذیب

في هذه الأبيات یقترن وصف الشوق وذآر الصدارة بمناجاة الحمام، لأن الحمام

مضرب المثل في الألفة وهدیله أشبه شيء بالحنين إلى الألف وعنترة في هذه الأبيات آما

في غيرها یؤآد حبه لعبلة ویشكو الفراق والبعد عنها.

:( ویقول الحارث بن حلزة في معلقته( 54

. 51 - إميل ناصيف: المصدر السابق، ص 36

. 52 - عنترة بن شداد: الدیوان، ص 110

. 53 - المصدر نفسه، ص 21

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 19 -

آذنتنا ببينها أسماء ورب ثاو یمل منه الثواء

بعد عهد لنا شما ء فأذنى دیارها الخلصاء

فالمحياة فالصفاح فأعنا ق فتاق فعذاب فالوفاء

فریاض القطا فأودیة الشر بب فالشعبتان فالأبلاء

لا أرى من عهدت فيها فأبكي ال یوم دلها وما یجبر البكاء

نجد الشاعر من خلال هذه الأبيات یشكو ألم فراق محبوبته بعد عهد لهما معا، في

أماآن عددها الشاعر لنا، فالشاعر لما یكون في مواضع عهد أسماء بها یحن إليها ویغلبه

الشوق ویقر بعدم جدوى البكاء الذي لا طائل منه.

: ( ویقول أبو عقيل لبيد بن ربيعة بن مالك العامري( 55

طافت أسيماء بالرحل فقد هيج مني خيالها طربا

هل یبلغني دیارها حرج وجناء تفري النجاء والخبباء

وهو من أصحاب المعلقات، وفي هذین البيتين یشكو حنينه إلى محبوبته التي فارقها،

:( ویسأل عن حالها. ویقول النابغة الذبياني( 56

عوجوا، فحيوا لنعم دمنة الدار ماذا تحيون من نؤي وأحجار؟

وقفت فيها سراة اليوم أسألها عن آل نعم، أمونا، عبر أسفار

لولا حبائل من نعم علقت بها لأقصر القلب عنها أي اقتصار

نبئت نعما على الهجران، علتبة سقيا ورعيا لذلك العاتب الزاري

رأیت نعما وأصحابي على عجل والعيس للبين قد شدت بأآوار

والشاعر في هذه الأبيات یشكو من فراق حبيبته، التي ذآر اسمها في آل بيت من هذه

الأبيات وهذا دليل على مكانتها في قلبه ومدى تأثير الهجران فيه. ویقول الأعشى في

:( الحنين( 57

خالط القلب هموم وحزن وادآار بعدما آان اطمأن

.191 - 54 - الزروني: شرح المعلقات السبع، ص 190

. 55 - لبيد بن ربيعة: الدیوان، ص 12

. 56 - النابغة الذبياني: الدیوان، ص 27

. 57 - الأعشى: الدیوان، ص 195

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 20 -

فهو مشغوف بهند هائم یرعوي حينا، وأحيانا یحن

والشاعر هنا یصف لنا اضطراب قلبه الذي هام حبا بهند فهو مشغوف بها، ویحن

:( إليها. ویقول سلامة ابن جندل في الحنين إلى أسماء معشوقته( 58

یا دار أسماء بالعلياء من إضم بين الدآادك من قو فمعصوب

آانت لنا مرة دارا فغيرها مر الریاح بساقي الترب، مجلوب

هل في سؤالك عن أسماء من حوب وفي سلام، وإهداء المناسيب

:( ویقول عمرو بن قميئة( 59

غشيت منازلا من آل هند قفارا بدلت بعدي عفيا

تبيين رمادها ومخط نؤدي وأشعت ماثلا فيها ثوبا

فكادت من معارفها دموعي تهم الشأن ثم ذآرت حيا

فنجد من خلال الأبيات السابقة أن الأماآن آانت تذآر الشاعر بحبيبته آما هو الحال

مع سلامة ابن جندل الذي یبعث بسلامه إلى من یحب مسائلا إذا آان في ذلك حوب أو

خطأ. وعمرو بن قميئة أیضا یصف لنا منازلا بدلت بعده عفيا، ویذآر تلك المنازل لأنها

لأهل هند محبوبته التي شده الحنين إليها حين رأى تلك القفار. فالحنين إلى المحبوبة آان

متداخلا مع الحنين إلى الأماآن فكل یذآر الشاعر بالآخر.

ج- الحنين إلى الأهل والأقارب:

وما أآثر الحنين إلى الأهل في الشعر العربي، فالإنسان اجتماعي بطبعه، لا یقدر أن

یعيش في وحدة منعزلا عن أسرته وخاصة العربي، الذي مجد الروابط الأسریة، فكان

الشاعر العربي یفتخر بنسب أبيه وأجداده، وینفطر قلبه إذا فقد أحد أفراد عائلته، ویبقى

یذآره رغم مرور السنين آما هو الحال بالنسبة للشاعر عدى بن ربيعة ( 531 م) الذي فجع

بقتل أخيه وائل بن ربيعة الملقب ب "آليب" ولقب عدي الزیر سالم أبو ليلى المهلهل وقد

آان لأخ المهلهل شأن في حياته قبل أن یقتله ابن عمها جساس بن مرة غدرا، فأقسم المهلهل

على الثأر لموت أخيه والعزوف عن الملذات خاصة وأنه آان سكيرا وزیر نساء، فقد أحب

أخاه حبا شدیدا وفجع بفراقه، واعتبر ثأره لأخيه شامل لقبيلة بكر آلها وليس ثأرا من القاتل

.18 - 58 - سلامة بن جندل: الدیوان، ص 170

. 59 - عمرو بن قميئة: الدیوان، ص 20

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 21 -

فقط، وهذا لمكانة أخيه في قلبه ومرارة فقده فكان فراق أخيه شاقا وصعبا، فبكى المهلهل

آليبا بحرقة، مع النساء التغلبيات فسخر منه الرجال، وقد أنشد معظم شعره في رثاء أخيه

:( وفي هذه الأبيات التي یشكو فيها حنينه یقول( 60

أهاج قداء عيني الإدآار هدوا فالدموع لها انحدار

آيف أنساك یا آليب ولما أقصحزنا ینوبني وغليلا

وقد شمل الحنين في الشعر العربي مختلف أفراد الأسرة من أب وأم وأولاد والأقارب

وهذا یدل على متانة العلاقة بين الأفراد وصعوبة الافتراق.

آافة الأسرة نظرا لتمسك العرب بروابط الدم، خصوصا بعد مجيء الإسلام حيث

یدعو الدین إلى صلة الرحم، وجاء في شعر أبي الطيب المتنبي حنينا صادقا لفقده جدته التي

:( رثاها في أبيات رائعة( 61

أحن إلى الكأس التي شربت بها وأهوى لمثواها التراب وماضما

فوا أسفا أن لا أآب مقبلا لرأسك والصدر الذین ملئا حزما

فهو یشتاق لتقبيل رأس جدته الذي استحال بموتها، ویتأسف لذلك وفي الحنين إلى الأم

:( نجد لوعة الفراق والتجمل بالصبر في شعر الشریف الرضي، في رثاءه لأمه یقول( 62

فارقت فيك تماسكي وتجملي ونسيت فيك تعززي وإیبائي

وتفرق البعداء بعد مودة صعب فكيف تفرق القرباء

نجده یصف شدة فراق القربا بقوله أن تفرق البعداء بعد المودة صعب فما بالك بتفرق

القرباء وخاصة الأم یعتبرها الشاعر في أعلى منزلة لدرجة أنه بفراقها الصبر فلم على

:( تحمل الفاجعة. ویقول الأود بن یعفر النهشلي (ت 600 م) وهو شاعر جاهلي( 63

ألا یا سلمي قبل الفراق ظعينا تحية من أمسى إليك حزینا

تحية من أظننته متوهجا لصرم حبيب قد أتى أن یبينا

تحية من لا قاطع حبل واصل ولا صارم قبل الفراق قرینا

. 60 - المهلهل: الدیوان، ص 6

. 61 - إميل ناصيف، أروع ما قيل في الوجدانيات، ص 79

62 - موسوعة روائع الشعر العربي: الأهل والأقارب في الشعر العربي، دار الراتب الجامعية،

. 2000 م، م 7، ص 60 ، بيروت، ط 1

. 63 - الأسود بن یعفر النهشلي: الدیوان، ص 32

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 22 -

هم الأسرة الدنيا وهم عدد الحصى وإخواننا من أمنا وأبينا

:( ویقول الشاعر عمرو بن قميئة لما آبر في العمر وبقي وحيدا( 64

آبرت وفارقني الأقربون وأیقنت النفس أن لا خلود

وبان الأحبة حتى فنوا ولم یترك الدهر منهم عميدا

والحكمة التي نستخلصها، هي أن الأحوال تتعثر فبعد اللمة یأتي التفرق.

د- الحنين إلى الصدیق والأنيس:

اشتهر شعراء العرب بالصحبة التي تدوم إلى الهرم، فكان لكل شاعر منهم صدیق

یرافقه في الكر والصيد والتجارة والأسفار آما یتقاسم معه آل همومه وأفراحه، لهذا فقد

آان لغياب الصدیق أثر بالغ في نفس الشاعر إذ یجسد غربة حقيقية هذا الغياب والتفرق،

ونلمح ذلك في أشعارهم، إذ یقول أبو فراس الحمداني ( 932 م- 968 م) وهو أسير لدى

:( الروم یعاني الغربة والوحدة في سجنه( 65

مصابي جليل والعزاء جميل وضني بأن الله سوف یدیل

جراح وأسر واشتياق وغربة أحمل إني بعدها لحمول

تناساني الأصحاب إلا عصيبة ستلحق بالأخرى غدا وتزول

فحنين الشاعر إلى الصدیق واضح في قوله "تناساني الأصحاب" أي أنه آان لدیه

أصحاب وتجاهلوه لأنه في السجن وهذا آلم الشاعر.

آما أن الشاعر أبو العتاهية الذي اشتهر بنقمته على الدنيا وغربته فيها یشتاق إلى

:( صاحب یؤنسه في قوله( 66

وإني لمشتاق إلى ظل صاحب یروق ویصفو إن آدرت عليه

هنا الشاعر ليس له صدیق، فهو یشكو غربته التي لا یشفيها إلا ظل الصاحب.

و- الحنين إلى الشباب والماضي:

خامسا، وآختام لأنواع الحنين التي اخترتها من بين أنواع عدیدة، هو الحنين إلى أیام

الصبا، التي یتحصر فيها الشاعر على شبابه الذي ولى وذهب آما یحن من خلال قصائده

. 64 - عمرو بن قميئة: الدیوان، ص 25

. 65 - إميل ناصيف: أروع ما قيل في الوجدانيات، ص 71

. 66 - أبو العتاهية: الدیوان، ص 89

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 23 -

إلى أیام الصبا والماضي المجيد بعد الهرم والشيب.

فقد طرق معظم الشعراء قدیما وحدیثا لهذا النوع من الحنين الذي یعتبر حكم ومواعظ

تؤخذ بمحمل الجد، فنجد الشعراء الذین حنوا إلى الشباب في أشعارهم، آانوا في سن آبير

من العمر، ناقلين لنا تجاربهم.

والعبر منها تستخلص من ذاتية الشاعر وترجمته لمشاعر الحنين إلى الماضي المجيد،

:( وذآره للهرم والمشيب وأروع ما قيل في هذا الموضوع أبيات للشاعر أبي العتاهية( 67

بكيت على الشباب بدمع عيني فلم یغن البكاء ولا النحيب

فيا أسفا أسفت على الشباب أنعاه الشيب والرأس الخضيب

عریت من الباب وآنت غضا آما یعرى من الورق القضيب

فيا ليت الشباب یعود یوما فأخبره بما فعل المشيب

وهذه الأبيات تنم عن قيمة الشباب، فاغتنامه یجنب الحصرة على ما فات، والشاعر

هنا یتمنى عودة الشباب ليخبره بمعاناته في المشيب والتقدم في ااعمر بعدما آان غضا قویا.

:( ویقول الأسود بن یعفر النهشلي( 68

هل لشباب فات من مطلب أم بكاء البائس الأشيب

بدلت شيبا قد علا لمتي بعد شباب حسن معجب

صاحبته ثمت فارقته ليت شبابي ذاك لم یذهب

فالشاعر من خلال هذه الأبيات یبكي شبابه الذي ذهب وأبدل بشيب، ذلك الشباب الذي

صاحبه ثم فارقه والشاعر یتمنى لو لم یذهب شبابه في أسلوب یوحي بالحصرة والحنين إلى

الشباب.

ولسلامة بن جندل التميمي (ت 600 م) بائيته التي استرجع في مطلعها ذآرى شبابه،

وبكى على ما خلا من أیامه التي یحن إليها، حيث ملذات الشباب التي لا یجدها في المشيب

:( یقول( 69

أودى الشباب حميدا، ذو التعاجيب أودى، وذلك شأن وغير مطلوب

. 67 - المصدر نفسه، ص 22

. 68 - الأسود بن یعفر: الدیوان، ص 6

. 69 - سلامة بن جندل: الدیوان، ص 4

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 24 -

ولى حثيثا، وهذا الشيب یطلب لو آان یدرآه رآض اليعاقيب

أودى الشباب الذي مجد عواقبه فيه نلذ، ولا لذات للشيب

فالحكمة من أشعار العرب التي طرقت موضوع الحنين إلى الشباب وما آان بالماضي

من أمجاد، هي حكمة مأخوذة من أشخاص عاشوا هاتين المرحلتين المتمثلتين في الشباب

والشيخوخة فهم أقدر على وضع صورة تمایز بين آل من حياة الشباب وحياة المشيب

فيصفون أیام الشباب المليئة باللهو والمرح والقوة أیام المشيب التي یعانون فيها من الضعف

والعجز، فهم الأعرف بإحساس الحنين إلى الصبا لأنهم یشعرون به فشوقهم وحنينهم

وبكاؤهم على الشباب یبرز من خلال تمني بقائهم في الشباب بأمجاده وملذاته.

:( والشاعر عمرو بن قميئة یقول بهذا الصدد( 70

یا لهف نفسي على الشباب ولم أفقد به إذ فقدته أمما

فقد آنت في معية أسر بها أمنع ضميني وأهبط العصما

ویقول جریر في قصيدة یصف فيها الشباب وما یعقبه من مشيب، وهذه أبيات منها

:( یقول فيها( 71

أمسى شبابك عنا الغض قد رحلا ولاح في الرأس شيب حل فاشتعلا

إن الشباب الذي آنا نزن به ولى ولم نقض من لذاته أملا

ولى الشباب حميا غير مرتجع واستبدل الرأس مني شر ما بدلا

شيب تفرع أبكاني موضحه أضحى وحال سواد الرأس فانتقلا

ليت الشباب حلت بنار رواحله وأصبح الشيب عنا اليوم منتقلا

أودى الشباب وأمسى الموت یخلفه لا مرحبا بمحل الشيب إذ نزلا

من خلال أبيات جریر نلاحظ موضوع الحنين إلى أیام الشباب الذي رحل دون رجعة

وولى مع لذاته، آما یعتبر الشاعر أن الشيب شر ما أبدل به الشباب فهو یبكي لحاله بعد أن

شاخ وزاره المشيب الذي لا یرحب به متمنيا أن تحل به رواحل الشباب.

:( ویقول ابن خفاجة الأندلسي رافضا حياته الراهنة وهو یسترجع ذآریات الماضي( 72

. 70 - عمرو بن قميئة: الدیوان، ص 10

.269 - 71 - جریر: الدیوان، ص 268

. 72 - ابن خفاجة: الدیوان، دار الصادر، بيروت (د. ت)، ص 310

الفصل الأول الحنين في الشعر العربي

- 25 -

فما ناب عن خل الصبا، خل شيبة ولا عاض من شرخ الشباب، خضاب

فما أآثر الشعراء العرب الذین حنوا إلى أیام الصبا عبر العصور في الشعر العربي. یقول

:( الأحوص( 73

بكيت الصبى جهدي فمن شاء لا مني ومن شاء آسى البكاء وأسعدا

وإني وإن عيرت في طلب الصبى لا علم أني لست في الحب أوحدا

فالشاعر في هذه الأبيات یبكي ویحن إلى أیامه الخالية.

فقد غلب الحنين الشعراء والشوق إلى أیام العز والجاه حيث القوة، وما جعلهم ینظمون

في هذا الموضوع هو معاناة العز والجاه حيث القوة، وما جعلهم ینظمون في هذا الموضوع

هو معاناة الشيخوخة فنجد الشاعر الأسود بن یعفر النهشلي لما أصبح مسنا وأعمى یقوده

.( الناس في آل مذهب فيقول في مفارقة الشباب وهو الشباب وهو یحن إليه( 74

. 73 - ابن قتيبة: الشعر والشعراء، تحقيق مصطفى أفندي، ص 205

. 74 - انظر، الأسود بن یعفر: الدیوان، ص 33

الفصل الثاني

الحنين في الشعر الألأندلسي

- 1 عوامل الحنين في الشعر الألأندلسي

أ - العوامل التاریخية والسياسية والالاجتماعية

ب - عامل الرحلة

ج - سقوط المدن الألأندلسية

د - عامل الألأسر في السجون

- 2 الحنين إلى الوطن

- 3 الحنين إلى الألأهل والألأقارب

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 28 -

1 - عوامل الحنين في الشعر الأندلسي:

أ - العوامل التاریخية والسياسية والاجتماعية:

لقد شهدت بلاد الأندلس أحداثا تاريخية وسياسية، أثرت على الحياة الاجتماعية للأفراد

عقب سقوط الخلافة الأموية.

فجراء هذه التأثيرات على الحياة الاجتماعية للفرد وجد الأندلسيون أنفسهم مرغمين

على الترحال بغية تأمين الحياة الكريمة لأسرهم في ظل الأوضاع في مدن الأندلس.

فقد عرف الشاعر الأندلسي مظاهر الحنين، وشهد شتى أنواع الغربة فنجده يعاني

الشوق وهو في الغربة بعيدا عن أهله ووطنه، آما نجده أيضا مفجوعا في غيابات السجون

خلف القضبان، فكيف لا يشتد حنيه وهو بعيد عن دياره وأهله مشتاق إلى متنفس يبهجه

بين جنات الأندلس الساحرة رفقة الأحباب والأهل، متنعما بالحرية خارج الأسر.

ونجد الشاعر أيضا يشكو أشواقه إلى أيام الصبا في أيام الهرم، وإلى باآيا حال تلك

الأماآن التي آان يلهو فيها مع صحبه ويتحسر على دمارها، متأملا الطلال باآيا حال تلك

الأماآن التي غيرتها السنون إلى أسوء حال إلا أنها في قلب الشاعر رغم دمارها وخرابها

أجمل الأماآن لأنها تحمل آل ذآريات الشاعر الخالية. وإذا أردنا أن نحصر عوامل الحنين

فإننا نجدها متمثلة أساسا في: عامل الرحلة، والأسر في السجون، وسقوط المدن والمماليك.

وقد بين لنا ابن الخطيب ما أصاب المجتمع الأندلسي في عصر ملوك الطوائف بقوله:

"ذهب أهل الأندلس من الانشقاق والانشعاب والافتراق حيث لم يذهب آثير من أهل الأقطار

مع امتيازها بمحل قريب وخطة المجاورة بعباد الصليب، ليس لأحدهم في الخلافة إرث،

ولا في الإمارة نسب ولا في الفروسية سبب ولا في شروط الإمامة مكتسب، اقتطعوا

الأقطار وقسموا المدائن الكبار، وجابوا العملات والأنصار، وجندوا الجنود وقدموا القضاة،

.( وانتحلوا الألقاب"( 1

ومن خلال قول الخطيب تبرز لنا حقيقة ما عاشه أهل الأندلس من الفتن فقد تصرف

ملوك الطوائف مع رعاياهم بكثير من الاستبداد والظلم والقسوة، وقد دفع أهل الأندلس الثمن

غاليا، ويقول بان الخطيب أيضا: "عن محمد بن هشام بن عبد الجبار الملقب بالمهدي: قد

، 1 - لسان الدين بن الخطيب: أعمال الأعلام، تحقيق إ. ليفي بروفسنال، دار المكشوف، بيروت، ط 2

. 1956 م، ص 144

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 29 -

آان جسورا مضطرب الرأي، ويقال أن عدة من تبعه من سفله قرطبة، فأثبت أسماءه

بالعطاء خمسون ألفا واتهبا الزاهرة فتقسمت الأيدي آل ما اشتملت عليه من مال وآلة

ومتاع... ولما فرغ من تحويل ما آان بالزاهرة، أمر بهدمها، وحط أسوارها وقلع أبوابها

.( وتشييع قصورها وطمس آثارها"( 2

وآان هذا المهدي واحدا من أولئك الذين أثر طغيانهم فوق أرض الأندلس بكل أنواع

الظلم، حتى استحالت حياة الأندلسيين نارا ضاربة.

وغيره من ملوك الطوائف آثير، الذين ذاق بهم سكان الأندلس ذرعا وبحكمهم، فقد

سعى آل واحد من هؤلاء الملوك إلى تحقيق طموحاته على حساب الأندلسيين الأمر الذي

انعكس على الحياة الاجتماعية، بعد أن صار لا يحسب للأندلسيين أي حساب فسجن من

سجن وارتحل من ارتحل ومنهم من ظل في داره يحيى حياة الغربة في موطنه وسط أهله

مما دفع بالشعراء للنظم في موضوع الحنين والغربة.

فمن خلال أشعار الأندلس نستطيع التأريخ لأبرز الأحداث التي عرفتها هذه البلاد، فقد

عرفت الحروب ضد الإنسان التي لم تكن لتهدأ إلا وتثور من جديد، آما مر من الحكم

،( الأندلسي مجموعة من الدول، وآان الأندلسيون بين قوة وازدهار، وبين تخاذل وضعف( 3

فالفتنة التي أصابت الأندلس عقب سقوط الخلافة وانقسام الأندلس إلى طوائف وإمارات

متصارعة فضلا عن تربص المماليك المسيحية بها، والحروب المستمرة التي لا تكاد

تتوقف، جعلت حياة الأندلسيين مضطربة، لا ينعم فيها أحد - بما في ذلك الشعراء -

بالاستقرار.

فعرف الشعراء مرارة الاضطهاد والصراع وذلك يبرز من خلال أشعارهم المليئة

بالأسى والحزن والشكوى والحنين إلى الاستقرار.

فقد عم الخراب وسقطت المدن سواء على أيدي النصارى أو بسبب الصراعات

الداخلية. ولاشك أن العامة من الناس هم من آانوا يدفعون الثمن لإعداد الجيوش وآانت

تؤخذ منهم الأموال النقدية آجزية ملوك النصارى، استرضاء لهم ومنعا لشرهم، ولم يمر

. 2 - لسان الدين بن الخطيب: أعمال الأعلام، ص 111

3 - أشرف علي دعدور: الغربة في الشعر الأندلسي عقب سقوط الخلافة، دار النهضة الشرق، القاهرة،

. 2002 م، ص 53 ، ط 1

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 30 -

آثير من الوقت حتى أصبحت المماليك المسيحية ليست لوحدها مصدر خطر على الأندلس،

.( فقد قامت دولة المرابطين بالمغرب، فأصبحت عروش ملوك الطوائف مهددة بالسقوط...( 4

فهده الأحداث السياسية التي هزت دولة الأندلس آانت ذات أثر على المجتمع الأندلسي

مما ترك آل أنواع الحزن تحوم في أوساط أهل الأندلس فقد أثر هذا آثيرا في نفسية أهل

الأندلس خاصة الشعراء الذين دفعتهم هذه الصراعات والأزمات السياسية والتاريخية

والاجتماعية إلى التعبير عن رفضهم للأوضاع والسخط على الحكام بشعر يفيض أسى

وألما على حال الأندلس، ووصفا منهم للأحوال الاجتماعية المتهورة التي ميزها الشقاء

والغبن، فخرقت الهيبة واشتعلت الفتنة، واعتلت المعاصي وظغن الأمن وحلت الفاقة آما

يذآر ابن عذاري المراآشي ما أصاب الحياة المعيشية في الأندلس بقوله:

"والسعر آل يوم يزداد غلاء والأمر يتفاقم بشدة والناس يتوجهون إلى السواحل

والبوادي، واشتد حال أهل الأندلس حتى أآل الناس الدم من مذابح البقر والغنم وأآلوا الميتة

.( وآان قوم في السجن فمات منهم رجل فأآلوه..."( 5

ومن خلال هذا القول تبرز لنا الوضعية المزرية التي فرضت على أهل الأندلس مما

دفع بهم إلى الترحال طلبا للرزق في بلاد المشرق وغيرها فوجدوا ألما آخر ينتظرهم في

ديار الغربة لابتعادهم عن الأهل والأحباب وترآهم في أرضهم يعانون الشقاء والبؤس

والظلم.

فالشاعر الأندلسي صور من خلال روائع القصائد التي وصلتنا حالتين تبدو فيهما

معاني الحرمان فالأولى الحرمان من القوت ويسر المعيشة والثانية هي حالة الاغتراب وهو

شعور أساه الحرمان أيضا فهو حرمان من التواجد في الوطن رفقة الأهل والأحباب.

فان آان لتلك الحياة أثر على الأندلس في ظل الخراب والظلم والفقر وحتى الجهل فإن

شعراءها هم أآثر من غلبهم الأسى لأنهم لم يقدروا على تحريك ساآن فاآتفوا بالنظم فقط.

فتميزت أشعارهم بالتعبير عن رفضهم للأوضاع على الأعداء، فقد وجدوا في الشعر

سبيلهم الوحيد لخلاصهم من القنوط اليأس ووجدوا أيضا متنفسا يشكون من خلاله أشواقهم

وحنينهم إلى أيام الرخاء والأمن.

. 4 - المرجع نفسه، ص 61

. 5 - المرجع نفسه، ص 58

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 31 -

هذا الشعر الذي جاء به الشعراء آتصوير لمواقف الحكام وتعاملهم مع رعاياهم

بأساليب الاستغلال والاستبداد وتسلط بعض الطبقات، وعموم الصراعات العنصرية وفقدان

معنى الصداقة وتفشي الخلل والتفكك في المجتمع بشكل عام، آل هذا أثر في وجدان الشاعر

المرهف الحس وآان ميلاد معاناة نفسية خاصة بعد زوال مكانة الشعراء وسقوط دولتهم

.( وسيطرة الجهال على المر ويأسهم من استقامة الأوضاع( 6

ومن خلال هذه التغيرات التي طرأت على بنية المجتمع الأندلسي سياسيا واجتماعيا

وثقافيا أصبح شعراء الأندلس يبكون ويشكون حال بلادهم التي يحنون إلى أيامها الزاهية

الهادئة المشرقة متمنين عودة عهدها الأول المنير.

آانت هذه أبرز عوامل تدهور نفسية الشاعر الأندلسي التي ما آان لها سوى تفريغ

آلامها في شعر ينبض بحب الوطن والحنين إلى أمجاد الأندلس واستقرار شعبها ولمتهم

بعدما آلت إليه من تشتيت وفاقة وصراعات وفتن.

فيما سبق ذآرت العوامل السياسية والاجتماعية الممهدة لظاهرة الحنين في الشعر

الأندلسي لكن ما آان حقا هو الدافع للنظم في هذا الموضوع هو مظاهر هذه الأحداث

وآمظهر من هذه المظاهر نذآر:

ب - الرحلة:

والتي تندرج ضمن عامل الأحداث الاجتماعية والتي تأتت بدورها من جراء الأوضاع

السياسية فقد عرف الكثير من الشعراء

حياة الغربة فمعظمهم ألف حياة الرخاء التي آانوا يحيونها فلما ضاقت بهم وجار بهم

الزمان وانقلبت العزة إلى ذلة والرفاهية إلى فقر مدقع، اضظر الشاعر إلى الهجرة سعيا منه

إلى جمع المال لإعالة أسرته وثمة عرف شعورا آخر آشعوره بالفقر والظلم في أرض، إنه

شعور الغربة ومعاناة الشوق والحنين إلى الوطن والأهل والرفاق.

فكان الحنين في شعر المغتربين مرتبطا بذآر الأوطان والحنين إليها وإلى الحبيب

المفارق والزوجة والأولاد والوالدين والأقارب.

وقد آتب عن الرحيل الشاعر ابن بقي وعن فراق الأحبة إذ تمر قافلة فينظر إليها

. 6 - المرجع نفسه، ص 119

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 32 -

:( بحسرة ولا يستطيع أن يقول شيئا إلا في قلبه فيقول في مناجاة الأحبة( 7

رآايبهم شدوا

وفي سيرهم جدوا

سلمت وما ردوا

وقد علموا أني من البين مرتاع

فموضوع الحنين آان سمة عند الشعراء المرتحلين، فقد أثر الارتحال سواء داخل

تراب الأندلس وبين مدنها أو خارج الأندلس بالغا في نفوس الشعراء ولهذا نجد هؤلاء

الشعراء تفننوا في وصف مشاعر الشوق والحنين والاغتراب.

وهذا نتيجة معايشتهم لظروف الغربة والابتعاد عن الديار والأهل.

ونجد من الشعراء الذين عرفوا الهجران ورحيل الأحباب الشاعر: ابن بقي الذي

:( صور لنا معاناة الفراق وبعد الحبيب عنه، لتمضي الأيام فلا ذآر ولا خبر يصله فيقول( 8

لقيت من البعد

أسى جل عن صد

حبيبي مضى عني متى نجتمع ما عدو

فنلمح من خلال موشحة ابن بقي أنه لم يحظ بنظرة وداع من الحبيب ساعة المهجر

فيزيد ذلك في عنائه وفي عذابه.

فالرحلة آانت ذات أثر عميق في قلوب المهاجرين، فهم لم ينسوا أرضهم وعائلاتهم،

وحلمهم بالعودة إلى الوطن دائم يراودهم في اليقظة آما في المنام، فما أقسى شعور النازح

المغترب وما أفجع الشوق إلى المفارق الراحل إلى أرض بعيدة عن أرض أهله التي شب

فيها.

والشاعر الملك "يوسف الثالث" آان أشد بكاء وألما على فراق غرناطة حين أبعد عنها

:( فنجده متشوقا إلى وطنه في هذه الأبيات( 9

7 - عدنان محمد آل طعمة: موشحات ابن بقي الطليطلي وخصائصها الفنية، سلسلة آتب التراث، بغداد

. 1979 م، ص 126

. 8 - المرجع نفسه، ص 126

9 - يوسف الثالث، ملك غرناطة: الديوان، تحقيق، عبد الله آنون، معهد مولاي الحسن، تطوان، ص

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 33 -

أضحى الفؤاد بسيف البين مجروحا ومدمع العين فوق الخد مسفوحا

لم يبرح الكلف ببعدآم آأنه جسد قد فارق الروحا

سقيا لغرناطة والله ما برحت تلقي من البعد في قلبي تباريحا

طال اغتيالي عن أهل وعن وطن وسامني زمني وجدا وتبريحا

غربة الشاعر وحنينه واضحان من خلال هذه الأبيات، وقد آان من أبي الحسن بن

أحمد بن سليمان "ابن فرآون" أشعارا تجملت وتزينت بوصف الحنين إلى الديار وهو

شاعر الملك "يوسف الثالث" المفضل.

وقد رافق يوسف الثالث الشاعر "ابن فرآون" في خروجهما من غرناطة وتعرض لما

:( تعرض له الملك يوسف الثالث من بعد وحرمان من الوطن، يقول ابن فرآون( 10

هل بعد طول تغربي وفراقي أرجو اللقاء ولات حين تلاق

لما رحلت عن المنازل لم يزل سكنى الغرام بقلبي الخفاق

هي دار أحبابي وموضع صبوتي ومحل جيراني ورفع رفاقي

جار الزمان ببعدهم ولعله يوما يجود بعادة الإشفاق

فابن فرآون في هذه الأبيات يشكو أشواقه، وآلامه فهو يحن إلى أرضه ومن عليها من

أهل وأحباب، آما يعلن أيضا أن بلاد الله واسعة ليس بإمكانها أن تحويه وتنسيه وطنه أو

تعوضه عنه.

وفي مظاهر الحنين في الشعر الأندلسي أنواع، فالبوح بمشاعر الشاعر من خلال

نظمه آان متعدد السياقات إلا أن الحنين ظل مألوفا غيره متغير لدى الشعراء لأنهم عرفوا

معاناة الارتحال آما هو حال ابن سعيد الذي برع في شعر الحنين فها هو يشكو حنينه في

:( هذه الأبيات من إحدى قصائد حنينه إلى دياره( 11

أقلقه وجده فباحا وزاد تبريحه فناجا

ورام يثني الدموع لما جرت فاز له جماحا

.29

10 - ابن فرآون: ديوان ابن فرآون، تحقيق محمد بن شريفة، مطبوعات أآاديمية المملكة المغربية،

. ط 1، الرباط، 1978 ، ص 259

11 - المقري: نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت

. 1968 م، ج 2، ص 307

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 34 -

يكابد الموت آل حين لو أنه مات لاستراحا

ينزو إذا ما الرياح هبت آأنه يعشق الرياحا

آم قد بكى للحمام آلما يعيره نحوها جناحا

فهذه الأبيات قالها الشاعر وهو بمرسية شرق الأندلس وهو يصور معاناته لفراق

ربوع إشبيلية، فمن شدة الشوق لم يكبح جماح دموعه، فهو يرى الموت بعينيه آل ساعة

بعيدا عن وطنه ولو أنه مات لاستراح.

ومن عوامل الحنين في الشعر الأندلسي أيضا، ضياع مكانة الشعراء في مجتمعاتهم

وهذا إثر ما دار من صراع ثقافي وسياسي في الأندلس فاختلت القيم وانعكست الأوضاع

فأحس الشاعر والمثقف وآل ذي فكر بالضياع والغربة داخل مجتمعه، فانبتت الصلة بينهم

وبين هذا المجتمع، وتغربوا فيه فنرى من التغرب ما عبر به الشعراء بدم أهل زمانهم

وإحساسهم بالغربة النفسية والحنين إلى مكانتهم وسابق عهدهم ومجدهم الأدبي المرموق

فجراء الفتن التي عرفتها مدنهم وتهاطل الأزمات والمصائب على أهل الأندلس فكشفوا

عيوب زمانهم والمساوئ التي لم يسلم منها حكم دولتهم، ليصلوا إلى التعبير عن ضياع

مكانتهم وعدم اعتراف مجتمعهم بما يتميزون به من خصال وصفات لا يعرف من حولهم

.( بقيمتها ولا يقدرون أصحابها حق قدرهم( 12

إن استعراض موقف الشعراء من زمانهم يعطينا لمحة عن أحداث ميزت فترات

تاريخية آان لها انعكاس آبير في نفوس الشعراء، الذين فقدوا الانتماء إلى مجتمعاتهم

ونظروا بعيون رافضة للأوضاع وناقدة لها، ونظرا لمعاناة هؤلاء الشعراء وشكواهم من

زمن طغى فيه البلاء وعمت فيه الفوضى، فالتمسوا العذر لأنفسهم أن جاءوا في زمن ليس

.( بزمانهم على نحو ما نجد في قول ابن محمد بن مالك القر( 13

وإنما العذر لي أن جئت في زمن لا الجيل جيلي ولا الأزمان أزماني

وغربة الشاعر واضحة من خلال هذه الأبيات، وفي أخرى نجد أبي عامر بن نيف

:( يقول( 14

.120 - 12 - أشرف علي دعدور: الغربة في الشعر الأندلسي عقب سقوط الخلافة، ص 119

. 13 - المرجع نفسه: ص 121

. 14 - المرجع نفسه: ص 122

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 35 -

حسبي من الدهر أن الدهر يفتح لي بكر الخطوب وإني عائر الأمل

دعني أصادي زماني في تقلبه فهل سمعت بظل غير منتقل

فمصائب زمانهم آانت قاسية مما أثر في نفسية الشعراء فبرزت لمحة الأسى

والإحساس باليأس من إمكانية تغير الأحوال وفقدان الأمل في إصلاح الزمان.

ج - سقوط المدن الأندلسية:

إن من بين عوامل ذيوع الحنين بين الشعراء آموضوع مرتبط بتجربة الشاعر

والغربة ومعاناة الفقد نجد عامل سقوط المدن والذي آان نتيجة الأحداث السياسية والتاريخية

التي عرفتها البلاد فلما انتشر الضعف في الأندلس وتوالت الأزمات الداخلية أضحى

الطريق مفتوحا أمام النصارى جلاء الأشلاء الممزقة، وسرعان ما أخذت المدن الأندلسية

تتساقط تباعا على يد النصارى والأسبان، فسقطت طليطلة وبلسينة وقرطبة، وغيرها ولم

يبق للمسلمين سوى غرناطة وبعض أعمالها.

إن ما آلت إّليه مدن الأندلس من دمار أثار في نفوس شعرائها حرقة دامت في قلوبهم

آلما مروا بالأطلال ذآروا فيها مرابع صباهم وأيامهم بين أشجارها وأنهارها وآان لكل

شاعر طريقته في التعبير عن حنين وقد آانت هذه النكبات قد أدت إلى استحداث فن نظم

الشاعر الأندلسي فيه وهو فن رثاء المدن والمماليك فكان لكل مدينة أو مملكة شاعرها الذي

يندبها ويتحسر على خرابها ويبكي على أطلالها، فجاءت قرائحهم بشعر يفيض حنينا إلى

الوطن المسلوب فكثر النظم في هذا الموضوع عند الشعراء في الأندلس وقد انقسمت

.( مراثيهم إلى ضربين: رثاء الأندلس عامة، ورثاء المدن الأندلسية آلا على حدى( 15

:( ففي رثاء الأندلس يقول إبراهيم بن فرقد باآيا( 16

ألا مسعد منجز ذو فطن يبكي بدمع معين لين

جزيرة الأندلس حسرة ألا غالب من حقود الزمن

وآانت رباطا للأهل النفي فعادت مناطا لأهل الوثن

وآانت شجى في حلوق العدى فأضحى مالها محتجين

رثاء الشاعر في هذه القصيدة يصدر عن شعور وطني عميق، فهو يبكيها بدموع

. 15 - فوزي سعد عيسى، في الأدب الأندلسي، دار المعرفة، جامعة الإسكندرية، 1999 ، ص 34

. 16 - المرجع نفسه، ص 34

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 36 -

حارة، ويبدو في صورة العاشق الذي فقد حبيبته إلى غير رجعة فظل طوال عمره يندبها

ويبكيها، وذلك آونه شهد أمامه دمار وطنه فهو يصف مدينته وصفا صادقا ممزوجا

بالحسرة والألم على ضياعها.

ومن الذين رثوا الأندلس نجد أبو الحسن أبو الحاج في مخمسة يرثي فيها ابن صمادح

ويندب الأندلس زمن الفتنة في أبيات تظهر مدى حبه لوطنه وألمه على ما يصيبه من أهوال

:( الدهر وشماتة الأعداء فيقول( 17

من لي بمجبول على ظلم صحف في أحكامه جاء الحور

مر بنا يسحب أذيال الحفر ما أحسد الطبي له إذا نفر

وأسبه الغصن به إذا خطر

آافورة قد طرزت بمسك جوهرة لم تمتهن بسلك

نبذت فيها ورعى ونسكي بعد لجاجي في التقي ومحكمي

فاليوم قد صح رجوعي واشتهر

وقد ذآر الأندلس وحب أرضها في شعر الأندلسيين، آما تنوع ذآر مدنها فمنهم من

عشق إشبيلية ومنهم من تعلق بمالقة فكانت آل مدينة تحمل مكانة خاصة في نفس شاعرها

الذي يصفها بأجود الأوصاف ويحن إليها آما لم يخن لشيء قبلها فها هو المقري صاحب

:( نفح الطيب يحتفظ لنا بقصيدة لم يذآر اسم صاحبها والتي يندب فيها طليطلة( 18

لثكلك آيف تبتسم الثغور سرورا بعدما يئست ثغور؟

أما وأبي مصاب هد منه تثير الدين فاتصل الثبور

طليطلة أباح الكفر منها دماها، إن ذا نبأ آبير

ويقول ابن الآبار البلنسي ( 595 ه - 658 ه) ( 1198 م – 1260 م) الذي تأثر

:( بهلاك بلدته بلنسية التي شهد مأساتها وسقوطا( 19

ملكت جوارحه عليه جراحه فشفاؤه لا يرتجي وسراجه

عار لا بكار الخطوب وعونها غيضت موارده وهيض جناحه

. 17 - المقري: نفخ الطيب في غصن الأندلس الرطيب، ص 104

. 18 - عبد العزيز عتيق: الأدب العربي في الأندلس، دار النهضة، بيروت 1987 م، ص 221

. 1986 م، ص 86 ، 19 - ابن الآبار: الديوان، تحقيق عبد السلام هراس، الدار التونسية للنشر، ط 2

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 37 -

حسر العمامة حسرة لعمومها بلوى أشاد بشكوها إفصاحها

:( ويقول أبو المطرف في إحدى قصائده يبكي فيها بلنسية( 20

ما بال دمعك لا يبني مدراره أم ما لقلبك لا يقر قراره

اللوعة بين الضلوع لظاعن سارت رآائبه وشطت داره

في آل قلب منه وجد عنده أسف طويل ليس تخبو ناره

فنجد من خلال أبيات أبي المطرف عاطفة الوطنية والأسى على "بلنسية" وهي عاطفة

نبيلة صادقة، فالشاعر يصور ما أصاب الناس من ضياع بلنسية إذا استعرت قلوبهم بنار

الحزن.

فما أآثر الشعراء الذين نما في قلوبهم حب الوطن والانتماء إليه حتى بعد أن صارت

بيوته أطلالا وسكانه أمواتا في القبور فقد آان النظم في الحنين إلى الوطن غزيرا عند

الأندلسيين نتيجة سقوط المدن الأندلسية على يد المستعمر الإسباني، فكان شعور هؤلاء نابعا

من الأعماق فنجد آل شاعر قد فجع بسقوط مدينته على مرأى منه، وفي إثر سقوط بربشتر

سنة ( 456 ه) على يد الإردمانيين النورمانيين نظم الفقيه الزاهد ابن العمال قصيدة يصور

فيها ما حل ب بربشتر عقب سقوطها مما أثار مشاعره فذآر ضروب الفواجع التي منيت

:( بها الأندلس والنكبات التي نزلت به يقول ابن العمال( 21

وقد رمانا المشرآون بأسهم لم تخط لكن شأنها الإصماء

هتكوا بخيلهم قصور حريمها لم يبق لا جيل ولا بطحاء

جاسوا خلال ديارهم فلهم بها في آل يوم غارة شعواء

آم موضع غنموه لم يرجم به طفل ولا شيخ ولا عذراء

ولكم رضيع فرقوه من أمه فله إليها ضجة وبكاء

ولرب مولود أبوه مجدل فوق التراب وفرشه البيداء

وغيره من الشعراء آثير، فقد آان الشعراء شهود عيان لوقائع سقوط المدن الأندلسية

السبب الذي أدى إلى النظم في الحنين إلى الوطن وبكاء الأطلال.

. 20 - فوزي سعد عيسى: في الأدب الأندلسي، دار المعرفة، القاهرة، 1999 م، ص 48

، 21 - إحسان عباس: تاريخ الأدب الأندلسي عصر الطوائف والمرابطين، دار الثقافة، بيروت، ط 3

. 1971 م، ص 177

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 38 -

د - عامل الأسر في السجون:

لقد آان من أجد الشعر من ناحية العواطف في الأدب الأندلسي شعر أولئك الذين

عرفوا معنى فقد الحرية والبعد عن آل ما هو عزيز آالأب والأم والأولاد والزوجة

والأهل، والوطن فكثير من الشعراء من أسروا في سجون بعيدة عن ديارهم وأهليهم، فكانت

مرارة الغربة تكاد تقتلهم فكم آانت حاجتهم للأنس شديدة وشعورهم بالفقد عارم إذ نجد أبا

:( الأصبع عيسى بن الحسن يقول في طول سجنه( 22

ليت شعري آيف البلاد وآيف ال إنس والوحش والسما والماء

طال عهدي عن آل ذاك، وليلي ونهاري في مقتلي سواء

ليس حظى من البسيطة إلا قدر قبر صبيحة أو مساء

وإذا ما جنحت فيه لأنس أوحشتني بأنسها الأغبياء

آما قدروا شعر عزيز لمن أسروا في السجون خاصة من آانوا يعرفون الرفاهية

والرخاء آالمعتمد بن عباد وابن زيدون وابن شهيد وغيرهم من الذين صدموا بواقع الأسر

بعيدا عن ديارهم ومنازلهم وأهلهم.

وخاصة الشاعر المحب ابن زيدون الذي هام بولادة بنت المستكفي حبا فكان حنينه

إلى وطنه مرتبطا بحنينه إليها فقد ذآرها وهو في السجن وعاش مرارة فراقها وهو في

السجن، وقد فر من سجنه ملتجئا إلى بني عباد في إشبيلية (سنة 1049 م) وآتب إلى

:( ولادة( 23

إني ذآرتك بالزهراء مشتاقا والأفق طلق ومرأى الأرض قد راق

وللنسيم اعتلال في أصائله آأنه رق لي فاعتل إشفاقا

آأن أعينه إذ عاينت أرقي بكت لما بي فجال الدمع رقراقا

فالشاعر نظم هذه الأبيات عقب فراره من السجن وفيها يبرز مدى شوقه وحنينه إلى

ولادة، فيتخيل أن الرياض والنسائم العليلة والمياه المترقرقة تشاطره اللوعة على فراق من

، 22 - ابن سعيد: المغرب في حلى المغرب، تحقيق د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ط 4

. 2009 م، ص 212

23 - ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، اختيار وتقديم الدآتور محمد رضوان الداية،

. منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1978 م، ص 140

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 39 -

يحب لاسيما عندما توقف عند مدينة الزهراء، فقد أثر السجن على نفسية الشاعر مما زاد

أشواقه إلى ولادة آما أن الأسر في السجون آان عاملا أساسيا في تعميق شعور الحنين لدى

الشعراء إذ أن الأسير يعيش غربة تجعل من الحياة سبه مستحيلة لأن الحرية من شروط

الحياة عند الإنسان خاصة عند بعض الشعراء الذين ألقوا المكانة المرموقة والكلمة

:( المسموعة والإآبار ممن حولهم. يقول ابن زيدون في هذه الأبيات لما طالعه العيد( 24

خليلي، لا فطر يسير ولا أضحى فما حال من أمسى مشوقا آما أضحى؟

ويهتاج "قصر الفارسي" صبابة لقلبي لا تألو زناد الأسى قدحا

وليس ذميما عهد "مجلس ناصح" فأقبل في فرط الولوع به نصحا

وأيام وصل "بالعقيق" أو اقتضيته فإلا يكن ميعاده العيد فالفصحا

فالشاعر في هذه الأبيات يحن إلى أيام اللهو التي آان يعيشها قبل سجنه فقد عانى

مرارة الاغتراب في سجنه، وقد آتب هذه الأبيات حين طالعه عيد الفطر وعيد الأضحى

وهو ضيافة الأمير بعد فراره من السجن فهو يشكو الملل رغم أنهم في يوم عيد إلا أنه لم

يكن مسرورا بالعيد لأن الشوق علبه خاصة بعد أن عرف الأسر في السجن.

إن معاناة الأسر عند الشعراء أدت بهم إلى النظم في موضوع الحنين، وذلك بوصفهم

لحياة الملل والسأم والوحدة القاتلة دون أنيس ولا صاحب فجاءت أشعار الأسري في قمة

الصدق العاطفة لأن الفقد والحرمان آان قد اشتد على الشاعر في سجنه.

وإن آان عامل الارتحال وسقوط المدن والسجن قد انعكس على مواضيع الشعر في

الأندلس فظهر بذلك الحنين فإنه هنالك عدة عوامل أخرى فرعية أثر على مشاعر الشعراء

وآمظهر عن ذلك نجد أن الشعراء قد طرقوا مواضيع في الحنين بأنواعه: آالحنين إلى أيام

الصبا وسبب ذلك يعود إلى تقدم الشاعر في العمر وبلوغه من العمر عتيا دون وجود من

يأنس وحدته ويشارآه أيامه التي باتت آئيبة تحت وطأة المشيب والعجز.

فهذا أدى بالشاعر إلى النظم في الحنين إلى الشباب الذي أبدل شيخوخة وما أآثر

:( الشعراء الذين حنوا إلى أيام الشباب والصبا آقول ابن خفاجة في حنينه إلى الشباب( 25

فآه طويلا ثم آه لكبرة بكيت على فقد الشباب بها دما

. 24 - المرجع نفسه: ص 144

. 25 - ابن خفاجة: الديوان، دار صادر، بيروت 1988 ، ص 234

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 40 -

فابن خفاجة شاعر مرهف الحس سريع الانفعال فهو يذآر أيام الشباب التي فقدها وفقد

معها ما يكون في الشباب من لهو وأصحاب وأصدقاء وهو اليوم يبكي أيامه الخالية التي لم

يبق منها إلا الذآرى فلما رأى شيبة برأسه بكى، وتحرآت أشجانه لذلك.

وفي قصيدة لابن الأبار نجده أيضا يحن إلى أيام الشباب، متحسرا عن سعادة أيامه

الذاهبة، متذآرا صباه، تلك الأيام التي آان يشبب فيها بالحسان بين الرياض، وحيث النسيم

:( العليل، يقول( 26

هل ترجع الأيام عصر شبيبة مازالت فيها بالحسان أشيب

حيث النسيم بما يمر عليه من حق الرياض مضمخ ومطيب

أيام يرسل من شبابي أدهم أرن وبشكل من مشيبي أشهب

2 - الحنين إلى الدیار والوطن الأندلسي:

إن البداية الحقيقية لغرض الحنين في الشعر آانت في بداية عصر الدولة الأموية في

الأندلس نتيجة الابتعاد والاغتراب عن الوطن، ثم تطور وازدهر في العصور اللاحقة

ولاسيما لدى الأندلسيين، فإذا آان للمشارقة فضل السبق في الحنين فإن الأندلسيين توسعوا

فيه أآثر منهم، من حيث الوفرة وقوة العاطفة، ولعل السبب في ذلك مرده إلى الأحداث

السياسية في الأندلس وسقوط معظم المدن الأندلسية على يد الملوك الأسبان.

لذا فقد قدر على الأندلسيين أن يعيشوا الاغتراب، الأمر الذي دفعهم إلى الهجرة من

ديارهم وفراق أهليهم، فذاقوا مرارة الضياع والتشتت فمنهم من نزل بالمغرب ومنهم من

رحل إلى المشرق، فكانت تجربة الغربة عميقة في نفوسهم. فظهر ذلك شعر يصور أحوال

الأندلسيين في مواطنهم الجديدة التي هاجروا إليها، وقد عبر أحد الكتاب الأندلسيين الذين

هاجروا إلى إفريقيا، بعد ضياع معظم المدن الأندلسية، عن حياة البؤس والشقاء التي آل

إليها أغلبية المهاجرين الأندلسيين وقال( 27 ): "إن قوما من الأندلسيين الذين هاجروا من

الأندلس وترآوا الدور والأرض والجنات والكرمات، ندموا على الهجرة بعد وصولهم إلى

دار السلام، وتسخطوا وزعموا أنهم وجدوا الحالة عليهم ضيقة".

فالوطن الأندلسي آان يحظى بمكانة مقدسة لدى أهله وسكانهن وآان الأندلسيون

. 26 - ابن الآبار: الديوان، ص 59

. 27 - فوزي سعد عيسى: في الأدب الأندلسي، ص 26

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 41 -

حريصين على البقاء في موطنهم إلا أن الظروف أخرجتهم منه خاصة بعدما سقطت معظم

مدن الأندلس، إذ ميزت حياتهم اليومية معاناة الشقاء والبحث المستمر عن القوت والأمن

والاستقرار فها هو ابن شهيد يرثي قرطبة ويشكو حنينه إلى مجدها، في قصيدة تفيض حنينا

.( يقول( 28

فلمثل قرطبة يقل البكاء من يبكي بعين دمعها متفجر

دار أقال الله عثرة أهلها فتبربروا وتغربوا وتمصروا

في آل ناحية فريق منهم منفطر لفراقها متجبر

عهدي بها والشمل فيها جامع من أهلها والعيش فيها أخضر

يا جنة عصفت بها وبأهلها ريح النوى فتمرت وتدمروا

أسى عليك من الممات وحق لي إذ لم نزل بك في حياتك نفخر

فالشاعر في هذه الأبيات يبكي قرطبة ويصف حالها بعد الخراب، فقد تشتت الأسر

وانتشر الفقر وهذا الأمر أثر في نفسية الشاعر لأنه يحب وطنه ولا يقبل له الهوان خاصة

وأن قرطبة آانت قبل سقوطها في أوج الازدهار والمجد.

ويقول ابن حزم حين وقف على منازل أهله ورآها وقد طمست أعلامها وخفيت

.( معاهدها، وغيرها البلى فصارت صحارى( 29

سلام على دار رحلنا وغودرت خلاء من الأهلين موحشة فقرا

تراها آأن لم تغن بالأمس بلقعا ولا عمرت من أهلها قبلنا دهرا

ولكن أقدارا من الله أنفذت تدمرنا طوعا لما حل أو قهرا

فيا خير دار قد ترآت حمية سقتك الغوادي ما أجل وما أسرى

سأندب ذاك العهد ما قامت الخضرا على الناس سقفا واستقلت بنا الغبرا

إن ابن حزم من خلال هذه الأبيات مفجوع لما أصاب وطنه، يصور لنا من خلال

شعره ما عرفته الديار من خراب ولأن سكانها هاجروا منها. فبدت موحشة لخلائها من

سكانها ودمار معالمها.

1971 م، ، 28 - إحسان عباس: تاريخ الأدب الأندلسي عصر سيادة قرطبة، دار الثقافة، بيروت، ط 3

. ص 138

. 29 - المرجع نفسه: ص 139

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 42 -

فبتوالي النكبات على بلاء الأندلس اضطر أهلها إلى الترحال والتغرب مبتعدين عن

ديارهم التي عم فيها الخراب وفساد النظام واشتداد الفقر، لطن لم يسلم المهاجرين من أسى

وحزن آخرين لقومها في ديار الغربة فالمغترب بعيدا عن أهله دون شك سيعاشر أناسا لا

يعرف طبائعهم وقد لا يقبلون تواجده بينهم، لهذا فإن الشاعر الأندلسي أبو بكر محمد بن

القاسم الذي رحل إلى المشرق لما نبت به قرطبة عند تقلب دولها، فجال في العراق وأقام

بحلب ثم غلبه الشوق فحن إلى وطنه وأهله، وقد صور لنا المهانة التي يلقاها الغريب، داعيا

:( قومه للاتعاظ بما قاسى إذ يول في هذه الأبيات التي فيها من الحكمة آثير( 30

أين أقضي الغرب من أرض حلب أمل في الغرب موصول التعب

حن من شوق إلى أوطانه من جفاه صبره لما اغترب

جال في الأرض لجاجا حائرا بين شوق وعناء ونصب

آل من يلقاه لا يعرفه مستغيثا بين عجم وعرب

يا أحبائي اسمعوا بعض الذي يتلقاه الطريد المغترب

وليكن زجرا لكم عن غربة يرجع الرأس لديها آالذنب

وقد ميز أشعار الأندلسيين المغتربين عاطفة الحزن والأسى العميق، فيظهر لنا الشوق

في ثنايا القصائد ويصاحبه حنين جارف إلى تلك الديار، مختلطا بالبكاء وبالأمل في العودة

إليها، ولكن اليأس أغلب ولأبي مطرف بن عميرة قصيدة يرثي فيها بلنسية بعد سقوطها

ويذآر أيضا جزيرة شقر وهي موطنه. فيصف حنينه إلى شقر في أبيات تشق عن أسى

:( عميق وشوق قاتل يقول( 31

يحن وما يجدي عليه حنينه إلى أربع معروفها متنكر

ويندب عهدا بالمشقر فاللوى وأين اللوى منه وأين المشقر

فالشاعر يبدي مشاعره الصادقة التي تمثلت في الحنين إلى الوطن.

وما أشقى النازح الغريب وصدره موقد، تضرمه نار الشوق والحنين، وتمتلئ حياة

، 30 - د. الطاهر أحمد مكي: دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة، دار المعارف، ط 3

. 1987 ، ص 210

31 - د. محمد رضوان الداية: الأدب الأندلسي والمغربي، مطبعة خالد بن الوليد، دمشق 1981 م، ص

.305

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 43 -

الأديب بعاطفة المغتربين التي لا تتوقف عن الحلم بالعودة إلى وطنها الأم، خاصة أولئك

الذين اضطهدهم الزمان خارج الوطن وأقصاهم سياط الألم وقسوة الحياة، ودفعت بهم لمة

اليأس والبؤس إلى أرض لا يحسون فيها الاستقرار ولا يعرفون بها أمانا حتى وإن آانت

سخية العطاء، فشتان بين أرض الأهل والأصحاب وبلاد الأغراب.

وابن سعيد المغربي واحد من أولئك الذين اشتعلت نار الحنين في قلوبهم أملا في

:( العودة يوما ما إلى بلادهم يقول( 32

وتشفت أعين العشاق من حور عين بالموظي تحجب

ملعب للهو مذ فارقته ما ثناني نحو لهو ملعب

وإلى مالقته يهفو هوى قلب صب بالنوى لا يقلب

هنا يتذآر ابن سعيد أيامه الجميلة في أحضان الأندلس، البلد الذي وهبه آل شيء

جميل، وهذا إنما يدل على تعلق الشاعر بوطنه فيبدو الشاعر في هذه الأبيات متشوقا إلى

:( مباهج حياته الخوالي في موطنه. ويقول أيضا متشوقا إلى الأندلس وهو بمصر( 33

هذه مصر فأين المغرب؟ مذ نأى عني دموعي تسكب

فارقته النفس جهلا إنما يعرف الشيء إذا ما يذهب

فهو يبرز من خلال هذه الأبيات حنينه ومدى مكانة وطنه في قلبه الذي أحب الأندلس

بشدة، فبكت عيناه لفراقها والتغرب في بلاد سواها.

فقد هاجر ابن سعيد من وطنه بصحبة والده وأقام بمصر وغيرها من بلاد المشرق، ثم

:( عاد إلى بلده فاستقر بها وأعطانا صورة دقيقة للغريب حينما يغترب لأول مرة( 34

ويح الغريب توحشت ألحاظه في عالم ليسوا له بسبيه

إن عاد لي وطني اعترفت بحقه إن التغرب ضاع عمري فيه

ففي هذه الأبيات نجد الشاعر يعتبر عمره في التغرب ضائع وهذا لأنه نأى عن موطنه

وعاشر قوما غير قومه.

32 - فون شاك: الشعر العربي في إسبانيا وصقلية، ترجمة د. الطاهر أحمد مكي، دار الفكر العربي،

. القاهرة 1999 م، ج 1، ص 136

. 33 - فوزي سعد عيسى: الأدب الأندلسي، ص 50

، 34 - د. الطاهر أحمد مكي: دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة، دار المعارف، ط 3

. القاهرة، ص 210

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 44 -

فابن سعيد حينما هاجر إلى مصر لقي سوء الترحيب من قبل أهل مصر فقد اعتبروه

مغربيا غريبا، حتى انه تمنى لو لم يكن آذلك لشدة وقع ذلك في نفسيته، ويصور ابن عتبة

الإشبيلي تجربته المريرة في الغربة حين رحل عن أشبيلية إلى مصر خلال فتنة ابن هود

:( في الأندلس، لكنه لم يلق في دار الغربة معاملة حسنة فانتابه الإحساس بالضيق يقول( 35

أصبحت في مصر مستضاما أرقص في دولة القرود

أود من لؤمهم رجوعا للغرب في دولة ابن هود

إن سوء معاملة أهل مصر للغريب أثار في نفسية الشاعر الكثير من السام، فهو يود

– من آثرة لؤمهم - العودة إلى الوطن ولو في حكم ابن هود. فأبو بكر محمد بن

القاسم عانى أيضا من ويلات الهجران والاغتراب وسوء الاستقبال والترحاب فيقول بهذا

:( الصدد( 36

دمشق جنة الدنيا حقيقا ولكن ليس تصلح للغريب

بها قوم لهم عدد ومجد وصحبتهم تؤول إلى الحروب

ترى أنها رهم ذات ابتسام وأوجههم تولع بالقطوب

أقمت بدارهم سنين يوما فلم أظفر بفتى أديب

فدمشق مدينة فاتنة خلابة تثير الناظر ببهائها، لكن أهلها في نظر الشاعر أناس وإن

آانوا ذوي مجد، فصحبتهم لا تطاق، وإن آانت الطبيعة رغم صمتها تبتسم فهم –أهل

دمشق - أناس تولع وجوههم بالقطوب والعبوس.

فالحنين إلى الوطن العربي آان بصمة في الشعر الأندلسي أوجدتها الظروف السياسية

وغيرها، لذا نجد تجارب الشعراء المغتربين الأندلسيين قد أضافت عاطفة أخرى في الشعر

الذاتي المرتبط بحياة آل شاعر من الشعراء وهي عاطفة حب والوطن والحنين إليه وتوقان

النفس المرتحلة عنه إليه. فالشاعر الأندلسي ارتبط ارتباطا شديدا، "فالأندلس قبلة شاعرها

آيف اتجه وانى اغترب، لا ينقطع عن ذآرها، ولا يرى بلدا في الدنيا يضاهيها، فجمالها

.( فوق آل جمال وعمرانها دون آل عمران"( 37

. 35 - فوزي سعد عيسى: في الأدب الأندلسي، ص 29

. 36 - أحمد بن محمد المقري: نفح الطيب، ج 3، ص 406

، 37 - بطرس البستاني: أدباء العرب في الأندلس وعصر الانبعاث، دار نظير عبود، بيروت 1979

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 45 -

ويذآر أن المعتمد بن عباد أمضى أياما من فتوته عاملا على شلب أيام أبيه، فلما تولى

الملك بعد أبيه اختص بها أحب شعرائه إليه إذ ذاك، أبا بكر محمد بن عمان، فوجهه إليها

متفقدا إلى أعمالها فلما ودعه أهاجه الشوق وغلبته الذآرى ودعا شاعره أن ينقل إلى

:( مرابعها تحيته( 38

ألا حي أوطاني بشلب أبا بكر وسهلن: هل عهد الوصال آما أدري؟

وسلم على قصر الشراجب عن فتى له أبدا شوق إلى ذلك القصر

وحكى ابن بشكوال عن الشيخ أبي بن سعادة انه دخل مدينة طليطلة مع أخيه على

الشيخ أبي بكر المخزومي قال: فسألنا من أين؟ فقلنا: من قرطبة فقال: قربا متى عهدآما

بها؟ فقلنا الآن وصلنا منها فقال: قربا إليا أشم نسيم قرطبة، فقربنا منه، فشم رأسي وقبله

:( وقال لي اآتب( 39

أقرطبة الغراء هل لي أوبة إليك وهل يدنو لنا ذلك العهد؟

لياليك أسحار وأرضك روضة وتربك في استنشاقها عنبر

وآان هذا التصرف إلا تعبيرا عن مدى شوقه لقرطبة، وحنينه إلى أراضيها وما

يزيدنا دلالة على حبه لوطنه وتعلقه به هو وصفه للياليها بالأسحار ولأرضها بالروضة

ولاستنشاق تربها برائحة العنبر الزآي.

ومن الشعراء الذين ارتحلوا عن الأندلس ابن جبير المعروف ب "صاحب الرحلة"، إذ

:( تجول في الشام والعراق والجزيرة، ولما وصل بغداد تذآر بلده فقال( 40

سقى الله باب الطاق صوب غمامه ورد إلى الأوطان آل غريب

فالشاعر في هذا البيت يرجو من الله أن يرد آل غريب إلى وطنه بين أهله وذويه،

فالشاعر يعرف جيدا معاناة المغترب ومشاعر الحنين إلى تراب الوطن ولوعة الفراق في

النفس المهاجرة في منأى عن مكان السكينة الذي هاجرت مئة أو هجرت مجبرة عنه.

ومن الشعراء الذين أجادوا في وصف شوقهم إلى الأوطان وحنينهم إلى العودة إليها

. ص 79

. 46 - د. الطاهر أحمد مكي: دراسات أندلسية، ص 207

. 39 - المرجع نفسه، ص 108

. 40 - أحمد بن محمد المقري: نفح الطيب من عصر الأندلس الرطيب، ج 3، ص 386

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 46 -

:( أبو إسحاق إبراهيم بن سهل يقول( 41

يا نسيما من نحو تلك النواحي آيف بالله نور تلك البطاح؟

أسقتنا الغمام ربا فلاحت في رداء ومئزر ووشاح؟

أم جفته فصيرته هشيما ترآته تذروه هوج الرياح

آه مما لقيت بعدك من ه م وشوق وغربة وانتزاح

قال هذه الأبيات بمالقة وهو متشوق إلى جزيرة الخضراء، فهو يصور لنا غربته

وحزنه وشوقه لوطنه، بالسؤال عن موطنه مخاطبا النسيم. وما أآثر الحنين إلى الوطن عند

الأندلسيين آما هو الحال عند ابن خفاجة الذي عشق الطبيعة الخلابة التي تتميز بها الأندلس

:( فيقول( 42

أجبت وقد نادى الغرام فأسمعا عشية غنائي الحمام، فرجعا

فقلت: ولي دمع ترقرق فانهمى يسيل، أو صبر قد وهى فتضعضعا

ألا هل إلى أرض الجزيرة أوبة فأسكن أنفاسا وأهدأ مضجعا

وقد تميز شعر الحنين عند ابن خفاجة بالرقة واللطافة وبالبساطة في المعاني وروعة

نزعتها الإنسانية، فيبدو من خلال هذه الأبيات رجلا مرهفا، متعلقا بوطنه، يعتبر أرض

الجزيرة سكن لنفسه والرجوع إليها يجعله يهدّأ مضجعا. ونجد الشاعر أبو المعاني الإشبيلي

:( من بلنسية يقول( 43

أنا في الغربة أبكي ما بكت عين غريب

لم أآن يوم خروجي من بلادي بمصيب

فهو يرى أنه في غربة وبكاؤه لا يقارن ببكاء أي غريب، وهو يعترف بأنه أخطأ

بخروجه من بلاده. وفي أبيات أخرى من شعر الحنين للشاعر أبي القاسم عامر بن هشام

القرطبي، وقد نظمها الشاعر لما رقت حاله بقرطبة وفيها وصف المنتزهات القرطبية، ورد

:( على من زينوا له الرحلة من أصحابه( 44

. 41 - المرجع نفسه: ج 2، ص 307

. 42 - ابن خفاجة: الديوان، دار الصادر، بيروت (د. ت)، ص 426

. 43 - المقري: نفح الطيب، ج 5، ص 285

. 44 - المرجع نفسه، ج 2، ص 81

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 47 -

يا هبة باآرت من نحو دارين وافت إلي على بعد تحيني

سرت على صفحات النهر ناشرة جناحها بين خيري ونسرين

ردت إلى جسدي روح الحياة وما خلت النسيم إذا ماتت تحينى

في هذه الأبيات يرد أبو القاسم على أصحابه الذين زينوا له الرحلة، إلى ملك

الموحدين بمراآش، فيها وصف المنتزهات القرطبية، وآذلك رده على أصحابه، بأنه حين

تغمره نشوة الحنين إليهم حين يهب عليه نسيم عليل يحييه، وهو يسير بجانب النهر فيهيج

:( أشجانه ويذآره ببلده. وفي تشوقه إلى الأندلس يقول ابن خفاجة، وهو بالعدوة( 45

إن الجنة، بالأندلس، مجتلي الحسن، وريا نفس

فسنا صحبتها من شنب، ودجى ليلتها من لعس

فإذا ما هبت الريح الصبا؟ صحت: وأشواقي إلى الأندلس

فالشاعر هنا يثني على بلده الأندلس، ذاآر أجمل ما تزخر به، فهو مولع وقد آان

الحنين إلى المشرف يمثل جانبا من أماني شعراء الأندلس وأحلا مهم منذ استيطانهم في

تلك البلاد، فهذا عبد الرحمن الداخل لا تكاد العزة و الرفاهية اللتان يحيا هما في الأندلس

تثنيا نه عن الحنين إلى المشرق فيجلس في مجلسه، و يلمح من بعيد نخلة شامخة فلا تلبث

:( أن تهيج أشجانه وقد آره بأرضآبائه و أجداده فيقول( 46

تبدت لنا وسط الرصافة نخلة تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل

فقلت: شبيهي في التغرب والنوى وطول التنائي عن بني وعن أهلي

نشأت في أرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاد والمنتأى مثلي

:( ويقول أيضا( 47

أيها الراآب الميمم أرضي أقر من بعضي السلام لبعضي

إن جسمي آما علمت بأرض وفؤادي ومالكيه بأرض

قدر الله بيننا بافتراق فعسى الله باجتماع سيقضي

فالشاعر يصف حنينه ويشكو فراق أرضه وأهله، فهو يشعر بالغربة فجسمه بأرض

. 1981 ، ص 147 ، 45 - عبد الرحمن جبير: ابن خفاجة الأندلسي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 2

. 46 - المقري: نفح الطيب، ج 2، ص 213

. 47 - ابن سعيد: المغرب في حلى المغرب، ج 1، ص 103

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 48 -

لكن فؤاده بالأرض التي بها أحبابه، فهي الأرض التي لا يحس فيها بالوحشة، وقد بعث بهذه

الأبيات لأخته بالشام يشكو لها حنينه.

فظاهرة الحنين في الشعر العربي إذا هي حالة شعورية عاشها الشاعر نتيجة

الاغتراب، فصور ما لقيه بعض الشعراء في ديار الغربة من عدم الترحيب والتقدير

وبالتالي الندم على المجازفة بالارتحال.

وليست معاناة المغترب مع سوء المعاملة ما جعل الشاعر يجن إلى وطنه، فارتباطهم

بالديار نابع من مشاعر حب الوطن والتضحية في سبيله، فكان الشاعر يفضل البقاء الرندي

:( يبكي فراق الوطن والحبيب والأهل فيقول في هذه الأبيات مشتاقا( 48

غريب آلنا يلقى غريبا فلا وطن لديه ولا حبيب

تذآر أهله فبكى اشتياقا وليس أن بكى غريب

:( ويقول أبو الوليد الشقندي( 49

استوقفت الرآب قد لاحت لك الدار واسأل بربع تناءت عنه أقمار

لا خفف الله عني بعد بينهم فإنني سرت والأحباب ما ساروا

ألا رعى الله ظبيا في قبابها منه لهم في ظلام الليل أنوار

إذا أنيسا بهم لا شيء يذعره لكنه عن جنابي الدهر نفار

فهذه الأبيات تصف ألم الشاعر وحزنه لفراق دياره وأهله وأحبابه، ومن الشعراء

الذين طرقوا موضوع الحنين إلى الوطن الشاعر الأندلسي جعفر أبي على القالي وجاء في

"المغرب في حلى المغرب" أنه "أثار في خاطره أن يرتحل إلى موطن أصله، ويجتمع

هنالك مفترق شمله ويحل بين من له به من الأقارب، ولا يثني العنان بعد إلى المغارب، فلما

حل بين من له به من الأقارب، ولا يثني العنان بعد إلى المغارب، فلما حل ببغداد أآذبت

:( عينه ظنه، وأجدب وأخفق المراد فرجع لا يلوى على معتذر..."، قال( 50

حننت إلى بغداد حيث تمكنت أصولي فلما أن حللت ببغداد

48 - أبو عبد الله الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق د. إحسان عباس، مكتبة لبنان،

. 1984 ، ص 350 ، ط 2

. 49 - ابن سعيد: المغرب في حلى المغرب، ج 1، ص 219

. 50 - المرجع نفسه، ص 209

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 49 -

رأيت ديارا يبعث الهم لحظها وقوما يسومون الغريب بأحدقاد

فوليت عنهم عائدا غير عاطف وإن آان فيما بينهم نشء أجدادي

وجزت على مصر فغمضت مقلتي وقلت بعنف: مغرب الشمس يا حادي

"وآان أشد ما لقيه ببغداد، أنه حرد يوما بحضرة جماع منهم، وأفرط في سوء الخلق،

فقال له أحدهم: يا هذا بئس ما عوضتنا عما نقله أبوك من بلدنا المغرب: حمل عنا علما

وأدبا، وجئتنا بجهل وسوء أدب، فقال: المشي يلزمني إلى مكة حافيا راجلا إن قعدت لكم في

.( بلد من يومي هذا"( 51

فحنين هذا الشاعر آان لموطنه الأصلي موطن أجداده، الذي عاد إليه متشوقا فجاء

منه غير عاطف ويصفهم بأنهم قوم يسومون الغريب بأحقاد. ويقول ابن الصباغ في مطلع

:( إحدى موشحاته( 52

تأتي بالأوطان عن حصرة الإحسان ولا معين

فمن لذي إحسان لطيبة قد آان له حنين

فنلمس من هذه الأبيات إحساس الشاعر بالغربة النفسية فهو يشعر بأنه غريب في دار

الهجرة، ويحس بأن الأوطان تنأى به عن موطنه الروحي وأن الديار قد شطت به ولذلك

فهو آثير الشوق إلى وطنه.

ومن الشعراء الذين عاشوا في الغربة بعيدا عن الوطن الشاعر ابن دراج القسطلي:

(ت 421 ه - 1030 م) الذي عاش فترة من الرخاء في ظل المنصور العامري، ثم وقعت

الفتنة لتطبع على نفسه الكثير من الشؤم والتعاسة، فراح يسعى لتوفير أسباب العيش لهم مما

اضطره إلى أن يجول بين ملوك الطوائف ورؤسائهم بحثا عن الرزق، فغربته لم تنته

:( برحيله من مكان لآخر، يشكو تشرده وضياع وطنه وهذا يبرز من خلال شعره، يقول( 53

تغرب في البلاد فأفردته فقيد العز محجود الزمام

تجافي الأرض عنه وهو معى وتجوفه المناهل وهو ظالمي

فهل حول يحول بلا رحيل ولو شيئا نراه في المنام

. 51 - المقري: نفح الطيب، الجزء الخامس، ص 209

. 1993 ، ص 95 ، 52 - يوسف عيد: التوشيح في الموشحات الأندلسية، دار النصر، لبنان، ط 1

. 53 - ابن دراج: الديوان، تحقيق د. محمود علي مكي، دمشق 1961 ، ص 203

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 50 -

فقد أنكرته الأرض وضاقت عليه ليصبح التغرب صديقا له، وعاب الاستقرار عنه لا

يكاد يراه في المنام.

وآثيرا ما آان ابن دراج يتذآر أيام الماضي وما فعلت به، بسبب تلك البلاد التي لم

يلق فيها إلا راعدة المنايا، ليجد التغرب والرحيل أهون عليه من معاناة الدمار على أرض

الوطن. فإحساس الغربة آان خيالا لا يفارق ابن دراج أبدا، فكثير ما آان يأخذه الحنين إلى

:( قرطبة( 54

واجنح لقرطبة فعانق تربتها عني بمثل جوانحي وثرائي

وانشر على تلك الأباطح والربى زهرا يخبر عنك أنك آابتي

فمعاناة هذا الشاعر آانت الاغتراب، لكن هناك شعراء آخرون عرفوا شعور الحنين

إلى الوطن ولم يكونوا قد رحلوا عنه لكنهم أمضوا أياما طويلة في السجون مما أدى إلى

الشعور لفقد والغربة، فكانت آلامهم وأحزانهم شديدة في ظل افتقاد الحرية والدار والأهل.

ومن هؤلاء ابن شهيد (ت 426 ه - 1035 م) الذي آثر ترحاله من مكان لآخر فهو

يرحل تارة عن قرطبة إلى مالقه باحثا عن المأوى والثبات، وآان ولوعا بحب قرطبة، وفي

:( هذه الأبيات يقول وهو في السجن( 55

فراق وسجن واشتياق وذلة وجبار حفاظ على عتيد

فمن مبلغ الفتيان أني بعدهم مقيم بدار الظالمين وحيد

مقيم بدار ساآنوها من الأذى قيام على جمر الحمام قعود

ويسمع للجنان في جنباتها بسيط آترجيع الصبا وتشيد

في هذه الأبيات تبرز لنا مشاعر الشوق فالشاعر بالرغم مما آان يعانيه وهو في

السجن لم يكف عن التفكير في أهله والشوق إليهم. ولابن حزم الأندلسي آما جاء في

(أعمال الأعلام) لابن الخطيب، أبيات يشير فيها إلى أنه ترك قرطبة مجبرا ولو استطاع

:( لآثر أن تكون له قبرا( 56

، 54 - د. إحسان عباس: تاريخ الأدب الأندلسي في عصر سيادة قرطبة، دار الثقافة، بيروت، ط 2

. 1969 ، ص 251

. 55 - المرجع نفسه، ج 1، ص 276

. 56 - ابن الخطيب : أعمال الأعلام، ص 108

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 51 -

فيا دار لم يقفزك منا اختيارنا ولو أننا نستطيع آنت لنا قبرا

:( ويقول ابن حزم أيضا( 57

ويا دهر بلغ ساآنيها تحيتي ولو سكنوا المروين أو جاوزا النهرا

فابن حزم انقلبت حياته فجأة من ترف ومن عيشة سعيدة إلى حياة البؤس والشقاء،

وآان يصور في شعره تلك المصائب المنصبة على البلاد دوما سببته من حالة اغتراب دائم

:( في البلدان بعد فقدان الأحباب. ويقول خلف بن فرج السميسر( 58

وقفت بالزهراء مستعبرا معتبرا أندب أشتاتا

فقلت: يا زهراء ألا فارجعي قالت: وهل يرجع من مات

فلم أزل أبكي وأبكي بها هيهات يغني الدمع هيهات

هذه الأبيات لخلف بن فرج وهو يقف بأطلال الزهراء يناجيها، متألما على ما آلت إليه

من حال، بعدما صارت أشتاتا، باآيا من شدة الأسف على مدينة الزهراء التي عهدها

بروعتها وجمالها.

ومن الشعراء الذين عشقوا أوطانهم فحنوا إليها في غربتهم الشاعر الأندلسي ابن

زيدون المولود بقرطبة (سنة 394 ه). فالشاعر يأمل بالعودة إلى الزهراء محل ارتياحه،

وفي حنينه إلى قرطبة نظم ابن زيدون في مخمساته قصيدة يصف نفسه في السجن فيفاخر

:( معتزا به متذآر ديار صباه ومسقط رأسه قرطبة يقول( 59

أ قرطبة الغراء هل فيك مطمع؟ وهل آبد حرى لبينك تنقع؟

وهل للياليك الحميدة مرجع؟ إذا الحسن مرأى فيك والحين مسمع

وإذا آنف الدنيا لديك موطأ

أليس عجيبا أن تشط النوى بك؟ فأحيا آأن لم أنس نفح جنابك

ولم يلتئم شعبي خلال شعابك ولم يك خلقي بدؤه من ترابك

ولم يكتنفني من نواحيك منشأ

هذه الأبيات التي ضمنها وصفا لحاله مشتاقا إلى قرطبة التي اطلعنا بفضله على ما

. 57 - المرجع نفسه، ص 108

. 58 - د. الطاهر أحمد مكي: دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة، ص 218

. 59 - بطرس البستاني: أدباء العرب في الأندلس وعصر الانبعاث، ص 131

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 52 -

آانت عليه من بهاء وازدهار، فتبرز مشاعر الحنين جلية من خلال أمانيه بالرجوع إلى

قرطبة التي أمضى فيها الليالي الحميدة التي لا تفارق خياله فهو يحن أيامه بقرطبة.

وآان في سجنه يرجو أن يزورها، وقبل أن توافيه المنية ببضعة أشهر قرت عينه

بالرجوع إلى قرطبة مظفرا بصحبة حملة عسكرية أرسلها المعتمد بن عباد لإنقاذها من

حيش طليطلة، ومات دون السبعين، وذلك (سنة 1070 م).

فكانت إذا قصائد ابن زيدون في الحنين إلى موطنه فيها لوعة من يغترب عن وطنه

ومرابع طفولته وأحبته، فالإنسان ألوف ولا شيء يصنيه أآثر من فراق الأرض التي أنبتته

والمكان الذي قضى فيه صباه، فمهما آبر سيبقى يحن إليها عند البعد والترحال منها، فقد

قضى ابن زيدون نصف عمره في الغربة، ورغم المجد الأدبي والمناصب الرفيعة إلا أنه لم

ينس حبه لأرضه قرطبة.

ومن الشعراء الذين طرقوا موضوع الحنين إلى الوطن والأهل المعتمد بن عباد، أشهر

ملوك الطوائف بالأندلس ( 1039 م - 1095 م) انتقل إليه عرش إشبيلية بعد موت والده

المعتضد بالله، وبعد حياة الأمير بدأت النكبات تصيبه فمن موت ابنه إلى سقوط عرشه

وأسرته، فأصبح فقيرا، فلم تتدفق عاطفته تدفقها في نكبته وسجنه فلما حل بأغمات سجينا،

:( وآان الحصن الزاهر من أحب المواضع إليه، فأخذ يحن غليه ويذآره( 60

غريب بأرض المغتربين أسير سيبكي عليه منبر وسرير

مضى زمن الملك مستأنس به وأصبح منه اليوم وهو نفور

فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة أمامي وخلفي روضة وغدير

ففاجعة ابن عباد بفقد أولاده الثلاثة وأسرته في حرب المرابطين في أغمات، آان ذا

أثر في نفسه، مما دفعته إلى الشعور بالغربة بعدما تبدلت أحواله من أمير إلى أسير ذليل.

ويقول الحصري القيرواني، في أبيات من قصيدته التي آان يندب فيها وطنه

:( بالقيروان( 61

ألا سقى الله أرض القيروان حيا آأنه عبراتي المستهلات

فإنها لذة الجنات تربتها مسكية وحصاها جوهريات

. 60 - المرجع نفسه، ص 152

.328 - 61 - ابن بسام: من الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ص 327

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 53 -

هل مطبع أن ترد القيروان لنا وصبره والمعلى فالحنيات

هذا ولم تشج قلبي للرباب ربى إلا بدت حسراتي المستكنات

الشاعر في هذه الأبيات يأسف على خراب القيروان ويتحسر عليها، ويرجو أن تعود

آما آانت لذة الجنات تربتها، مسكية وحصاها جوهريات فالشاعر مرتبط بموطنه الذي

أصبح غريب عنه بعدما آل إليه من خراب.

:( ويقول أيوب بن سليمان السهلي في حنينه إلى قرطبة( 62

قرطبة الغراء هل أوبة إليك من قبل الحمام المصيب

ذآرك قد صيرته ديدنا وآيف أنساك وفيك الحبيب

3 - الحنين إلى الأهل والأقارب:

إن الظروف الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى ذيوع ظاهرة الحنين في الشعر

الأندلسي، آانت قد أثرت على أحوال الأسر الأندلسية التي عرفت الترحال والتفرق

والشتات وقلة القوت.

فكان سعي الأندلسيين جاهدا من أجل توفير الأمان ولقمة العيش لعائلاتهم، مما أدى

بهم إلى التغرب بعيدا عن الأهل والأقارب، فلم يهنأوا في أوطانهم بسبب الفاقة وتقلب

الأحوال، آما لم يهنأوا في بلاد الغربة التي لجأوا إليها بغرض الاسترزاق وطلب السكينة،

ونلمس في أشعارهم التي وصفوا فيها حنينهم إلى أحضان عائلاتهم الدافئة. وما أآثر

الشعراء الذين عرفوا التغرب بعيدا عن الأهل، آما عرفوا مدى ألم الفراق سواء آان فراق

حي بعيد أو فراق عزيز أخذه الموت دون رجعة.

فنجد الشاعر أبا القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي الذي أغار الفرنجة على داره

فخربوها، وقتلوا أهله وأقاربه وآان هو غائبا عنهم، آان آفيف البصر فاستأجر من أرآبه

:( وعاد إلى دياره ويقول( 63

يا دار أين البيض والآرام أم أين حيران علي آرام

راب المحب من المنازل أنه حي فلم يرجع إليه سلام

لما أجابني الصدى عنهم ولم يلج المسامع للحبيب آلام

. 62 - ابن سعيد: المغرب في حلى المغرب، ص 62

. 63 - المصدر نفسه، ص 448

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 54 -

طارحت ورق حمامها مترنما بمقال صب والدموع سجام

يا دار ما فعلت بك الأيام ضامتك والأيام ليست تضام

من خلال هذه الأبيات، تبرز مشاعر الأسى على فقدان أهله، وبيته، خاصة وانه أعمى

في حاجة ماسة إلى من يعينه في قضاء حاجاته في آل مذهب. فمرارة الفراق آلمت الشاعر

وزادت همه وحزنه وحنينه إلى آنف أسرة تؤنسه في وحدته. ويقول المعتمد بن عباد وهو

:( في سجن أغمات لما استقبله عيد الفطر بعيدا عن أهله( 64

فيما مضى آنت بالأعباد مسرورا فساءت العيد في أغمات مأسورا

ترى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرا

برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا

يطأن في الطين والأقدام حافية آأنها لم تطأ مسكا وآافورا

يتذآر الشاعر وهو في السجن عندما استقبله العيد، الحفلات الفخمة التي آانت تقام

بقصره أيام العيد، وتذآر بشائر السرور التي آانت تلوح على وجود أولاده وبناته، فرأى

بناته لما دخلن عليه ليبلغنه التي آانت تلوح على وجوه أولاده وبناته، فرأى لما دخلن عليه

ليبلغنه التهنئة فتيات آالزهر دموعهن في الأعين حافيات الأقدام، في أطمار بالية بأيديهن

المغازل وقد غير البؤس تلك الوجوه الجميلة، فظل يندب حظه وحظ أولاده، يذآر السالفة

في السجن بعيدا عن أهله الذين فجع لفراقهما.

وقد آان الرحيل لقاضي أبي الوليد بن الفرضي لأداء مناسك الحج ذا أثر في نفس

:( الشاعر الذي أدى به الحنين إلى أهله بإرسال أشواقه فيقول( 65

مضت لي شهور منذ غبتم ثلاثة وما خلتني أبقى إذا غبتم شهرا

ومالي حياة بعدآم أستلذها ولو آان هذا لم أآن بعدها حرا

أعلل نفسي بالمنى في لقائكم وأستهل البر الذي جبت والبحرا

ويؤنسني طي المراحل دونكم أروح على أرض وأغدو على أخرى

وتالله ما فارقتكم عن قلى لكم ولكنها الأقدار تجري آما تجري

فسفر الشاعر للحج جعله يشعر بالوحشة فكتب إلى أهله ما يخالجه من حنين نحوهم،

. 64 - بطرس البستاني: أدباء العرب في الأندلس وعصر الانبعاث، ص 153

. 65 - ابن سعيد: المغرب في حلي المغرب، ص 104

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 55 -

فثلاث شهور من البعد عنهم جعلته لا يستلذ بالحياة لأنه فارق مؤنسيه. ويقول أبو البقاء

:( الرندي راثيا زوجته حزنا على فراقها( 66

يا برهة لحان فيها للمنى أمل ونزهة للهوى والسمع والبصر

مضت مضي الصبا عني لا عوض ومن يقوم مقام الشمس والقمر

فالشاعر في هذه الأبيات يبرز مكانة زوجته في حياته، وان فراقها دون رجعة بفعل

الموت أفجعه وهو يشبه وفاتها بمضي الصبا لا عوض له، وهذا يدل على مدى أهميتها في

قلبه ومدى فاجعته برحيلها. فأسباب الحنين إلى الأهل والأقارب آانت متعددة ولكل شاعر

قصة وتجربة عاشها، فاتسمت أشعاره بالصدق لأن مشاعره نابعة من وجدان عرف مرارة

البين ولوعة الفراق وطول البعاد.

إن إحساس الغربة والحنين آان عميقا في نفس الشعراء الأندلسيين، فقد عرفوا معاناة

الترحال والهجرة وقسوة البعاد ولوعة فراق الأهل، فالظروف القاسية التي تعرضت لها

الأندلس أثرت على المواضيع التي أصبح الشعراء ينظمونها، فنجد شعر الحنين إلى الأهل

والأقارب عند جل الشعراء في الأندلس، عند الأمير الثري آما هو عند غيره من البسطاء

والفقراء، فالنظم في هذا المجال آان غزيرا من حيث الإنتاج الأدبي ومن حيث العواطف

النبيلة الصادقة.

ومن الشعراء الذين ذاقوا مرارة الابتعاد عن الأهل والوطن الشاعر ابن شهيد فقد شهد

الدولة العامرية وانهيارها، ليسيطر عليه الحزن بعد أن رأى البربر يخرجون أهل قرطبة

:( من ديارهم وينهبون خيراتهم، فتفرقوا بعد شملهم يقول( 67

ما في الطلول من الحبة فمن الذي عن حالها نستحبر

لا تسألن سوى الفراق فإنه ينبيك عنهم أنجدوا أم أغوروا

جار الزمان عليهم فتفرقوا في آل ناحية وباء الأآثر

آما عرف ابن دراج القسطلي من الشعراء، الترحال وآلام البعد عن الأهل والأحباب

66 - لسان الدين الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي،

. 1974 ، ص 77 ، القاهرة، ط 1

.111 - 67 - ابن شهيد: الديوان، تحقيق يعقوب زآي، القاهرة (د. ت)، ص 109

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 56 -

:( فيقول في وصفه أحوال الهجرة وأهوالها( 68

ولله عزمي يوم ودعت نحوه نفوسا شجاني بينها وشجاها

وربة خدر آالجمان دموعها عزيز على قلبي شطوط نواها

وبنت ثمان ما يزال يروعها على النأي تذآاري فوق حشاها

وموقفها والبين قد جد جده منوطا بحبلي عاتقي يداها

فالشاعر يصف يوم توديعه لأهله وهو مرتحل، فتبدو حالة الشاعر في هذه الأبيات

محزنة فهو يذآر أهله لحظة رحيله عنهم وهم يبكون على فراقه، ويذآر أيضا لبنته

الصغيرة التي تألم عند توديعها، فظل يتذآرها في ديار الغربة ويحن إليها وإلى أهله آلهم.

فقد آان موقف الوداع صعبا على المفارق ومفارقيه، فابن دراج غادر الأندلس بحثا

عن قوت العيش تارآا وراءه أسرة تنتظر عودته آما يتوق هو أيضا للقائها، فتكبد عناء

الغربة ومشقة افتقاد أهله، وآل هذا صنعته الظروف التي تعرضت لها الأندلس ومشقة

افتقاد أهله، أجواء الرخاء والسكينة وسط أهله في ظل المنصور العامري وبتبدل الأحوال

في وطنه تغريت حياته نحو الأسوء فعرف الحرمان والتغرب.

:( ويقول إبراهيم المعروف بابن الحجاج( 69

قالوا تغربت عن أهل وطن فقلت لم يبق لي أهل ولا وطن

أفرغت دمعي وحزني آلهم وليس لي بعدهم سكنى ولا سكن

ففي هذه الأبيات يشكو الشاعر وحدته التي يقضيها بعيدا عن أهله ومن يقربون إليه

من الأحباب، والعودة إلى الوطن تظل حلما يراوده ولا يمكنه التحقق في ظل سقوط المدن

:( وتشتت الأسر. آما عرف ابن زيدون الغربة في سجنه فاشتاق إلى دياره وأهله فيقول( 70

خليلي لا فطر يسر ولا أضحى فما حال من أمسى مشوقا آما أضحى

فابن زيدون من الشعراء الذين فرق بينهم وبين ذويهم وديارهم الأسر في السجون،

فكتب في سجنه واغترابه، وإحساسه بالضياع.

ومن خل تجربة ابن زيدون مع الأسر في السحن والابتعاد عن ذويه وعن ولادة وعن

. 68 - د. محمد زآريا عناني: تاريخ الأدب الأندلسي، دار المعرفة، الإسكندرية 1999 ، ص 80

. 69 - أبو الحسن النباهي: تاريخ قضاة الأندلس، تحقيق ليفي بروفنسال، القاهرة، 1947 ، ص 112

. 70 - د. محمد زآريا عناني: تاريخ الدب الأندلسي، ص 101

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 57 -

قرطبة، نلمس لطابع الوجداني الذي ميز شعره، وآان بعده عن من يحب ووحدته في السجن

يجعله يشعر بالأسى والحزن وفقدان طعم الحياة ولذتها، ويجعله في حنين دائم إلى مفارقيه

:( أملا في الوصال( 71

إن عاد لكم عيد فرب فتى بالشوق قد عاده من ذآرآم حزن

وأفردته الليالي من أحبته فبات ينشدها مما جنى الزمن:

"بم التعلل لا أهل ولا وطن ولا نديم ولا آأس وسكن"

ومن خلال هذه الأبيات يبدو لنا الشاعر يائسا متشائما وآئيبا بعد معاناة الحرمان والفقد

والضياع آما يظهر حنينه جليا إلى الوطن والأهل.

وإن آان ارتباط الحنين دائما ويهيج الذآريات، فأمل المرء في أن يعود يوما إلى بلده

الذي شب فيه، وسط عائلته، هو ما يخفف من حسراته، وتصح هذه الحسرة أآثر إيلاما عند

استحالة العودة واللقاء، فبعد أن وجد مسلموا الأندلس أنفسهم خارج أوطانهم وبيوتهم

مكرهين، فخيم اليأس على حياتهم، فأثار هذا الأمر حنين الشعراء فجادت قرائحهم بمراثي

فيها مدن الأندلس التي تتالي سقوطها، الواحدة بعد الأخرى على مرأى ساآنيها وهم

عاجزين عن رد القضاء أو تغيير مصيرهم، وليس أمامهم سوى الترحال بعد أن تشتت

شمل الأسر، وهذا ما ترويه مرثية "بكاء رندة" التي اعتبرت من المرثيات المجهولة

:( المؤلف( 72

أحقا أخلائي القضاء أبادآم ودارت عليكم بالصروف دهورها

فقتل وأسر لا يفادي فرقه لدى عرصات الحشر يأتي سفيرها

لعمر الهدى ما بالحشا لفراقكم سوى حرق سحم تلظى سميرها

ولوعة شكل ليس يذهب روعها ولا تنقضي أشجانها وزفيرها

ونفس على هذا المصاب حزينه يذوب آما ذاب الرصاص صبورها

وهذه المرثية تصف حال رندة وأهلها بعد الخراب الذي لحق بها، فقد سجلت لنا مأساة

التشتت والضياع، وتفرق شمل الأسر، فصاحب هذه المرثية يأسف على الواقعة ويشعر

بأسى آبير على ما خلفته من دمار، ويحن إلى رندة وأيام الهناء فيها قبل القتل والأسر

. 71 - د. محمد زآريا عناني: تاريخ الأدب الأندلسي، ص 101

. 72 - د. الطاهر أحمد مكي: دراسات أندلسية...، ص 337

الفصل الثاني الحنين في الشعر الأندلسي

- 58 -

والثكل الذي أثر في العائلات وترك حزنا عميقا في النفوس، وحنينا ولوعة شديدين.

الفصل الثالث

خصائصشعر الحنين الألأندلسي

- 1 اللغة والألأسلوب في شعر الحنين الألأندلسي

أ - الألألفاظ

ب - العاطفة

ج - الألأساليب

- 2 الصور الفنية في شعر الحنين الألأندلسي

أ - الصور الفنية البيانية

ب - مزج وصف الطبيعة بالحنين

ج - الالاقتباس

- 3 ألوان البدیع في شعر الحنين الألأندلسي

أ - الجناس

ب - السجع

ج - الطباق

د - التوریة

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 61 -

1 - اللغة والأسلوب:

لقد عرف الأندلسيون في أشعارهم بالبلاغة وحسن اختيار الألفاظ وجزالة الأسلوب

وهذا ما یجعل اللغة فصيحة وتراآيبها دالة.

وأما شعر الحنين فقد تميز في غالبه بالوضوح في الأفكار وسهولة الألفاظ وصدق

العاطفة وبلغة فصيحة وبأسلوب جزل یتم عن ذوق الشعراء المتميز في تصویر حنينهم

وأشواقهم النابعة من قلب صادق وهو تصویر ینقل لنا تجارب هؤلاء الشعراء الذین عرفوا

الغربة والأسر بعيدا عن الأهل والوطن آما تجرعوا مرارة فقد الوطن والأقرباء، وتبدل

الأحوال في الأندلس جراء سقوط مدنها على ید ملوك إسبانيا، آما أحاطنا الشاعر علما

ودرایة بذهاب الشباب وحلول المشيب في روائعهم الشعریة التي جسدت معنى رحيل

الصبا والتحسر على ما فات وتمني بقاء الشباب والخلود في ثوب الصبا.

إنها خصائص شعر الحنين الأندلسي بصفة عامة، وفيما یلي من هذا البحث تفصيل

لخصائص اللغة والأسلوب اللذان یرمي من خلالهما الشاعر إلى البوح بأسرار قلبه من

حنين وحسرة على فقدان الوطن والأهل والحریة في ظل الحروب والأسر في السجون،

وأسرار بلاغته وشاعریته من خلال ذآائه الأدبي في التعبير عما یجيش في صدره والقارئ

والناقد هما من یحددان حذف الشاعر وحسن نظمه.

أ - الألفاظ:

إن اللغة من أهم مكونات القصيدة، وفيها یعبر الشاعر عما یجيش في النظم، فلا بد

للشاعر أن یسلك فيها مسلكا خاصا ليتمكن من تأدیة المعاني بطریقة تختلف عنها فيما عدا

.( الشعر من فنون القول( 1

آما یذهب ابن رشيق إلى "أن للشعراء ألفاظا معروفة وأمثلة مألوفة، لا ینبغي للشاعر

أن یعدوها، ولا أن یستعمل غيرها، آما أن الكتاب اصطلحوا على ألفاظ بأعيانها سموها

.( الكتابية لا یتجاوزونها إلى سواها"( 2

أما عبد القاهر الجرجاني فيقول في موضوع انتقاء الألفاظ من قبل الشاعر: "إن

. 1 - إبراهيم السامرائي: لغة الشعر بين جيلين، دار الثقافة، بيروت، (د. ت) ، ص 8

2 - ابن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق محمد محي الدین عبد الحميد،

. دار الجيل، بيروت 1981 ، ط 5، ج 1، ص 128

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 62 -

.( الألفاظ أوعية المعاني"( 3

ویمثل اختيار الألفاظ عنصرا أساسيا من عناصر تكوین الأسلوب وتنویعه، فهو یرتبط

عادة بموضوع النص، ومعجم العصر وطبيعة الثقافة المؤثرة في الشاعر، فالألفاظ الجزلة

تناسب موضوعات في مثل قوتها آالفخر والمدح وموضوعات الحماسة بصفة عامة، أما

الألفاظ الرقيقة فتنسجم مع ما یناسبها من أغراض آالغزل ووصف الطبيعة( 4). وقد تميزت

ألفاظ شعر الحنين بالسهولة، وهم یتفقون مع رأي القدامى في أن سهولة الألفاظ تتلاءم مع

شعر الحنين والغزل.

یقول قدامة بن جعفر: "ولما آان المذهب في الغزل والحنين إنما هو الرقة واللطافة

والشكل والدماثة آان مما یحتاج فيه( 5) أن تكون الألفاظ لطيفة، مستعذبة، مقبولة غير

مستكرهة...".

فقد غلب على شعر الحنين السهولة في الألفاظ، في أسلوب جزل رقيق، یقول ابن

الأثير: "مال الشعراء الأندلسيون إلى استخدام الألفاظ السهلة الواضحة البعيدة عن التعقيد

.( والغرابة والوحشية وغيرها من الصفات التي لا تخل بفصاحة الكلمة"( 6

فنجد ألفاظ الشعر الأندلسي دلالة على سلامة الذوق، وسعة في لين الكلام وجزالة

اللفظ وإن آانوا یختارون أحسن الألفاظ وقعا على السمع وادعاها إلى تصویر الجمال،

وإیقاظ النفوس، وإثارة العواطف، مما یناسب الموضوعات التي آانوا یذآرونها في

شعرهم، وقد أمنعوا في الصياغة اللفظية إمعانا، جعل آلامهم لا یكاد یخلو من تشبيه أو

.( استعارة أو آنایة، وآثيرا ما آانوا یأتون بالعجيب الغریب في ذلك( 7

فقد اتسمت أشعارهم بالرقة واللين والسهولة والفصاحة والبعد عن الاستذلال، ویبدو

التلاؤم بين الألفاظ والمعاني جليا في قصائد الحنين لدى ابن الخطيب وأبي البقاء الرندي

. 3 - عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، دار المعرفة، بيروت 1981 ، ص 43

4 - عبد الحميد عبد الله هرامة: العقيدة الأندلسية خلال القرن الثامن هجري، أدب الكاتب للطباعة،

. طرابلس، لبنان 1999 ، ط 2، ج 2، ص 292

. 5 - قدامة بن جعفر: نقد الشعر، تحقيق آمال مصطفى، مكتبة الخانجي، بغداد 1963 ، ط 2، ص 75

6 - ابن الأثير: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محمد محي الدین عبد الحميد، مكتبة البابي

. الحلبي، القاهرة 1939 ، ج 1، ص 168

7 - إبراهيم أبو خشب: تاریخ الأدب العربي في الأندلس، دار الفكر العربي، القاهرة (د. ت)، ص

.155

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 63 -

وأبي حيان وابن جابر وابن سعيد وابن زیدون وغيرهم.

ولعل السبب في ذلك: أن أآثر تلك القصائد في الحنين نظمها شعراء اعتبروا من

فحول زمانهم، فقد اشترط النقاد السهولة في الألفاظ خاصة في شعر الحنين، ویوضح عبد

القاهر الجرجاني أن اللفظ لا بد أن یكون "مما یتعارفه الناس في استعمالهم ویتداولونه في

زمانهم ولا یكون وحشيا غریبا أو عاميا سخيفا"( 8). یقول الشاعر الغرناطي أبو عبد الله ابن

:( زمرك( 9

ولا تألق بارق التذآار ما صاب واآف دمعي المدرار

أمدآري غرناطة حلت بها أیدي السحاب أزرة النوار

آيف التخلص للحدیث وحونها عرض الفلاة وطافحا زحار

فالشاعر هنا یسوق لشعره في الحنين أرق الألفاظ، ویتخير الألفاظ السهلة الدارجة

ویضفي عليها شيئا من ذاته وبيئته. فقد جاءت الأبيات في غایة التأنق والجمال آما أن ألفاظ

ابن زمرك جاءت سهلة وواضحة لا غرابة فيها وهذا دليل على براعته الأسلوبية وسلامة

ذوقه.

آما أن ابن سعيد أیضا نظم في الحنين إلى وطنه وآانت أشعاره متميزة في بحسن

ذوقه في تخير الألفاظ المعبرة عن الحنين، حيث تبدو ألفاظه من خلاله أشعاره سهلة ورقيقة

نابعة من قلب صادق مفعم بالشوق. والحنين في هذه الأبيات یقول متشوقا إلى اشبيلية وهي

:( حمص الأندلس( 10

لولا تشوق أرض حمص ما جرى دمعي ولا تشمتت بي الأعداء

بلد متى یخطر له ذآر هفا قلبي وخان تصبر وعزاء

من خلال أبيات "ابن سعيد" نجد بأن ألفاظه تبدو رقيقة عذبة، فهو یتشوق إلى وطنه

ویحن إليه ویعتبر البعد عنه هو الموت، فلم نلاحظ لفظة واحدة في هذه الأبيات تحتاج

البحث للتعرف عن معناها، وهذا إن دل على شيء إنما یدل على سهولة ألفاظه وفصاحتها

8 - عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، تحقيق محمد رشيد رضا، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة

. 1939 ، ط 3، ص 4

9 - شهاب الدین أحمد المقري: أزهار الریاض في أخبار القاضي عياض، تحقيق إبراهيم الأبياري،

. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1939 ، ج 3، ص 170

. 10 - المقري: نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت 1968 ، ج 1، ص 693

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 64 -

وبعدها عن الغرابة، فهي من ألفاظ هذا العصر وبيئته.

أما ابن الخطيب فقد نظم العدید من القصائد متشوقا فيها إلى وطنه بعد أن فر من

:( غرناطة إلى بلاد العدوة یقول( 11

سلوا عن فؤادي بعدآم آيف حاله وقد قوضت عند الصبح رحاله

ولا تحسبوا أني سلوت على النوى فسلوان قلبي في هواآم محاله

هذه الأبيات تبدو لقارئها فصيحة، لتميزها بالرقة والتلاؤم بين ألفاظها زمعانيها،

فأسلوب ابن الخطيب سلس وألفاظه سهلة ورقيقة بعيدة عن الغموض والإبهام.

لقد تميزت ألفاظ شعر الحنين في معظمها بالسهولة، فهي تنبض بعمق الشعور، فترق

في مواضع الرقة، وتقوى في مواضع القوة، أما التراآيب فقد آانت مترابطة متينة السبك

والصياغة، واضحة تراوحت بين الطول والقصر.

ب - العاطفة:

إن الكلمة هي وحدة البناء الفني للشعر، وهي من أقوى العوامل التي تتوقف عليها

القيمة الجمالية لأي عمل أدبي، حيث حرص الشعراء منذ القدم على أن تكون أعذب لفظا

أصح معنى وأآثر اتساقا مع الجملة التي ترد فيها، "الأداء الفني الجميل أساه الدقة في

اختيار الكلمة، ووضعها في بيئتها، وامتزاجها مع معناها إذ ليس هو في مجموعه إلا طائفة

.( من الكلمات المؤلفة المعبرة"( 12

من هنا استطاع الشاعر أن یؤلف من الكلمات قطعا شعریة یضفي عليها من نفسه

وروحه ما یجعلها تعبر عن مشاعره وتعانق عواطفه.

آان للعاطفة أثرها البالغ في شعر الحنين" فالعاطفة هي الانفعال النفسي المصاحب

للنص"( 13 )، فهي تحرك نفسي، بينما الفكرة شيء عقلي، فالذهاب إلى الحدیقة مثلا فكرة لكن

.( حب الذهاب إليها والتردد عليها في أوقات معينة عاطفة( 14

11 - لسان الدین بن الخطيب: دیوان لسان الدین بن الخطيب، الصيب والجهام والماضي والكهام، تحقيق

.573 - محمد الشریف قاهر، الشرآة الوطنية للنشر والتوزیع، الجزائر 1973 م، ص 572

، 12 - عبد الحكيم بلبع: النثر الفني وأثر الجاحظ فيه، مطبعو لجنة البيان العربي، القاهرة 1975 ، ط 2

. ص 214

. 13 - أحمد الشایب: أصول النقد الأدبي، مكتبة النهضة المصریة، القاهرة 1973 ، ط 8، ص 214

. 14 - عبد القادر أبو شریفة: مدخل إلى تحليل النص الأدبي، دار الفكر، عمان 1990 ، ص 25

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 65 -

فشعراء الأندلس إذا ما أحصيناهم فيما یخص العاطفة، فسنجد أن جلهم اتفقوا على

التعبير الصادق عن عواطفهم في شعر الحنين وغيره من المواضيع المتعلقة بتجارب

الشاعر المفرحة والمفجعة، وذآریاته وأهوائه، فلم یعرف شعرهم بالمبالغة في وصف

المشاعر ولا الزیف بل اتسمت أشعارهم في الحنين بصدق العاطفة وعمق الشعور في لغة

تطابق ما یحسون به دون تكلف أو مبالغة وهذا لأن الشاعر الأندلسي عرف حقا معاناة

الغربة والبعد عن الأهل، آما عرف الحنين وعاشه.

"والعاطفة هي لب الفنون وعمادها، وهي المعزف الذي تصح به أوتار الأدب، وعليه

یعزف الأدیب، وهي الشرفة التي یطل منها على ما تنطوي عليه النفوس من ألم وأمل،

والمنفذ الذي یصل منه إلى القلوب، وهي ترجمان لما یمكن من مظاهر الحياة الطبيعية

.( والاجتماعية وهي التي توجه الفن إلى المثل العليا في الحياة"( 15

إن أهم صفات الأدب أن یكون طبيعيا، وأن یكون صادق الإفصاح عن المعاني

الحيویة، دقيقا في تصویر النزعات وما یتغلغل في الصدر من ميول وآمال، وأن یعرض

.( لكل هذا في غير تكلف( 16

إن صدق العاطفة یعني "صدق الشاعر في شعره عن إحساس صادق ألمُّ به، وعصفت

برأسه حمياه... فصدق الشعور من أقوى أسباب الإجادة الشعریة لدى الشاعر، والصدق

العاطفي وصدق الاعتقاد عند الشاعر باعث قوي على انفعال الآخرین بشعره وتأثرهم

.( بنتاجه( 17

فالشاعر الأندلسي مرتبط بأهله ومتعلق بوطنه محب له، حتى إذا ما ارتحل هن أهله

ووطنه حن إليهم، وخفق قلبه شوقا إليهم.

فقد سطر شعراء الأندلس بشعرهم أسمى صفحات الوفاء والحب لأوطانهم وهم على

ترابه، حتى إذا ما دفعتهم الظروف السياسية والفتن الداخلية إلى الخروج من أوطانهم

فاضت أشعارهم بالشوق والحنين إلى الوطن، وبالألم والعذاب بسبب الغربة والبعد عن

الدیار، فقد خلف لنا هؤلاء الشعراء شعر في حنين یتميز بصدق العاطفة وفيض الشعور،

. 15 - عبد الحميد حسين: الأصول الفنية للأدب، مكتبة الأنجلو، مصر 1964 ، ص 71

. 16 - المرجع نفسه، ص 76

. 17 - عيسى علي العكوب: العاطفة والإبداع الشعري، دار الفكر، دمشق 2002 ، ط 1، ص 274

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 66 -

وعمق التجربة ورهافة الحس، والانفعالات الإنسانية الفياضة والمتدفقة المغلفة بنيران

الحزن. فنجد الشاعر إبراهيم الساحلي الذي آانت له تجربة حقيقية في الغربة وهمومها

:( وفراق الأحبة یقول( 18

ما لزمان نام مستغرق الكرى فما هب حتى سل ما آان سلما

طواني الضنا طي السجل وشفني فلم یبق مني السقم إلا توهما

وودعت خلي والشبيبة راغما فلم أدر من أجرى دموعي منهما

وجف ربيع العيش في مربع الصبا غداة ذوى العود البهيم وأثغما

فقد صدرت هذه الأبيات عن فلب محب لوطنه، فعواطف الشاعر جياشة نابعة من

تجربة حقيقية في هموم الغربة، فما مر به الساحلي من المعاناة والغربة عن الوطن والبعد

عن الأهل واقعي عكس عواطفه في هذه الأبيات.

:( آما یصف لنا أبو حيان الغرناطي شوقه وحنينه وشجنه یقول( 19

هل تذآرون منازلا بالأجبُل ومنازها حُفّت بشطّي شُنّل

ومشاهدا ومعاهدا ومناظرا للقاصرات اليعملات الذبل

حيث الریاض تفتحت أزهارها فشممت أذآى من أریج المنْذل

والطير تشدو مفصحات بالغنا فوق الغصون الناعمات الميل

فتثير للمشتاق داء آامنا وتذیل صائن دمعه المتهلل

فهذه الأبيات تعبر عن مدى تعلق الشاعر بوطنه وانبهاره بجماله، فهو شاعر مرهف

حساس، مضطرم العاطفة، سریع التأثر والانفعال، تصدر أبياته عن عاطفة صادقة وشوق

عارم عاشه الشاعر.

وهذا شاعر ببسطة الذي ذاق الغربة، غربة عن الوطن والأهل، وغربة السجن وهو

عبد الكریم القيسي الذي وقع أسيرا في ید الأسبان، فقد عرف تجربة قاسية، یقول عبد

18 - ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق محمد عبد الله عنان، دار المعارف، مصر (د.

. ت)، ج 2، ص 135

19 - خالد البلوي: تاج المفرق في تحلية علماء المفرق، تحقيق الحسن السائح، مطبوعات فضاله،

. العراق (د .ت)، ط 2، ص 26

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 67 -

:( الكریم القيسي في حنينه لوطنه وأهله( 20

إني فضضت عن الدموع ختاما فغدت تسيل بوجنتي غماما

شوقا إلى عيش قضى بأحبة آانوا وعيشهم علي آراما

یا ساآنين ببسطة دوني، ولي قلب بهم ما یستفيق غراما

وإنني إن آنت عنكم نازحا فالقلب في تلك الدیار أقاما

فالشاعر یكاد قلبه ینفطر على فراق وطنه وأهله وهو خلف القضبان أسير یعاني

الوحدة والعذاب، وهو یبعث بروحه تهيم في أرجاء بلاده حيث خلف قلبه هناك. ویقول ابن

:( فرآون في الحنين( 21

أحيانا هل لنا بعد النوى طمع في القرب وأهل زمان الأنس یرتجع

إذا تذآرت ما بيني وبينكم یكاد قلبي من ذآراه یتصدع

ما آان ضني أن القرب یعقبه بع ولا أن طول الوصل ینقطع

فعاطفة الشاعر من خلال هذه الأبيات حزینة، فالشاعر یتمنى عودة أیام الأنس لأنه

ذاق مرارة البعد عن أحبابه، فهو یصف مدى تفطر قلبه من الألم لفراق أحبابه، ویظهر

الصدق جليا في عاطفة الشاعر في أسلوب رقيق وألفاظ لينة عذبة. فالشعر الذي یصف

ماضي الشاعر المجيد وحاضره التعيس یضع أمامنا صورة تقابلية لعواطفه متعاآسة بين

الأنس والفراق وبين الأنس والحزن.

فشعر الحنين أیضا اتسم بصدق الشعور فتارة یصور لنا الألم والعذاب عندما یكون

الشاعر مقهورا منكویا بنار الشوق بلا أمل في صلاح أحواله، وتارة نجده فرحا حين یكون

بصدد تذآر أیام الأنس والصبا والاجتماع، بمن یحب من الأهل والأقارب. فقد تراوحت

العاطفة في شم الحنين بين الألم والصبر والضيق والأمل، ولكن أغلب في شعر الحنين هو

العاطفة السلبية آالحزن واليأس والقنوط والخوف.

ومن الشعراء الذین عرفوا بحنينهم الأمير إسماعيل ابن الأحمر الذي اضطر للخروج

20 - عبد الكریم القيسي: دیوان عبد الكریم القيسي، تحقيق جمعة قيسة ومحمد الهادي الطرابلسي، بيت

. الحكمة، قرطاج 1988 ، ص 101

21 - ابن فرآون: دیوان ابن فرآون، تحقيق محمد بن شریفة، مطبوعات أآادیمية المملكة المغربية،

.260 - ط 1، الرباط 1987 ، ص 259

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 68 -

إلى بلاد العداوة المغربية، بعد أن أرغم على البعد من وطنه بحكم انتسابه إلى بني الأحمر،

:( وسلب منه سلطانه، فقد فاضت دموعه شوقا وحنينا وألما لبعده عن وطنه فيقول( 22

یهيج زفرتي تذآار أرضي ویفجعني ویستهمي الجفونا

حنيني ما حببت لها عظيم وما یسوى محبتها بلينا

وما بمراد نفسي آان عنها بعادي لا ورب العالمينا

إن الشاعر ابن الأحمر مرهف الحس وعاطفته صادقة تنفر عن حب الوطن والضيق

لشدة البعد عنه.

ج - الأساليب:

لقد تعددت الأساليب في شعر الحنين عند الأندلس، فكل آان یعبر بأسلوبه الخاص

فمنهم من آان یستهل قصيدته باستفهام، أو بنداء أو أن یختم قصيدته بالتمني آتمني اللقاء

والعودة إلى الدیار، فلكل أسلوب من هذه الأساليب الإنشائية غرض یرمي إليه الشاعر من

خلال توظيفه لها في أشعاره.

- أسلوب النداء:

لقد تميزت أشعار الحنين بأسلوب النداء آدلالة على الأسى والحزن، أو الاستسراخ

والاستغاثة والدعوة لمؤازرة الشاعر وتفهم حنينه ، وابن الآبار وظف النداء في حنينه إلى

:( الأندلس في قوله( 23

یا للجزیرة أضحى أهلها جزرا للحادثات وأمسى جدها تعسا

یا للمساجد عادت للعدا بيعا وللنداء غدا أثناءها جرسا

ففي أسلوب النداء في هذه الأبيات حسرة وأسى على ما حل بالأندلس، فهو یتحسر

على ما جرى وهو لا یقدر على فعل شيء غير ذلك بعدما ساءت حالة بلاده. وابن مرج

:( الكحل آرر أسلوب النداء للتعبير عن حنينه لمحبوبته( 24

یا نظرة أوردت بشرخ شبابي وقضى علي بعذاب

22 - إسماعيل بن الأحمر: نثير الجمان في شعر من نظمي وإیاه الزمان، تحقيق محمد رضوان الدایة،

. دار الثقافة، بيروت (د. ت)، ص 25

.347 - 23 - المقري: نفح الطيب، ج 5، ص 346

. 1993 ، ص 109 ، 24 - د. صلاح جرار: مرج الكحل الأندلسي، سيرته وشعره، دار البشير، ط 1

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 69 -

یا شدنا عيناه تفعل بالنهى مكان تفعل الصهباء بالألباب

وأسلوب النداء آان یستخدمه الشعراء أحيانا لمخاطبة المفارق، استعطافا آما أن

الشاعر آان ینادي الطير والریح والطبيعة بكل ما فيها ویكلمها، ویبعث معها سلام إلى

الأهل البعيدین وإلى الحبيب المهاجر. فنجد الشاعر ابن زیدون الذي نظم في شعر الحنين

إلى الوطن والحنين إلى "ولادة" قد أآثر من أسلوب النداء في القصيدة الواحدة، وهذه

:( الأبيات من قصيدة "بنتم وبنا"( 25

یا ساري البرق غاد القصر فاسق به من آان صرفا الهوى والود یستعينا

ویا نسيم الصبا بلغ تحيتنا من لو على البعد حيا آان یحيينا

وأسأل هناك هل عنى تذآرنا إلفا تذآره أمسى یعنينا

فالشاعر یخاطب نسيم الصبا وساري البرق وینادیهما في أسلوب رقيق یستعطف فيه

الشاعر ولادة، في هاذین البيتين ورد أسلوب النداء مكرر بأداة النداء (یا). ویقول أیضا في

:( ولادة( 26

یا نازحا وضمير القلب مثواه أنستك دنياك عبدا أنت مولاه

ألهتك عنه فكاهات تلذ بها فليس یجري ببال منك ذآراه

عل الليالي تبقيني إلى أمل الدهر یعلم والأیام معناه

فالشاعر یعاتب ولادة على هجرانها فينادیها ب "یا نازیحا" ویصف نفسه بالعبد الذي

هي مولاه الذي انشغل عنه.

- أسلوب الاستفهام:

نجد أسلوب الاستفهام في شعر الحنين متداولا عند آل شاعر یرمي به إلى غایة ما

ویقصد به من وراء الإفصاح الإبانة وتقریب المعنى من القارئ، وأسلوب الاستفهام بليغ إذا

حسن تأليفه، وقد آان استخدامه من قبل الشعراء في غالبه للتعبير عن حاضر الشاعر

واصطدامه بالواقع المریر في دیار الغربة، وهذا ما نلمحه عند ابن سعيد الأندلسي في

25 - علي جواد الطاهر وعبد الرضا صادق وعبد الغفار الحبوبي: المنهل في الأدب العربي في العصر

.193 - العباسي، مطبعة المعارف، بغداد 1962 ، ص 191

26 - ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزیرة، تحقيق محمد رضوان الدایة، منشورات وزارة الثقافة

. والإرشاد القومي، دمشق 1978 ، ص 147

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 70 -

:( قصيدة له قاله وهو بمصر وهذه أبيات انتقيتها لاحتوائها على أسلوب الاستفهام یقول( 27

أین حمص؟ أین أیامي بها؟ بعدها لم ألق شيئا یعجب

أي عيش قد قطعناه بها ذآره من آل نعمى أطيب

أین حسن النيل من نهر بها آل نغمات لدیه تطرب

آم به من زورق قد حله قمر ساق وعود یضرب؟

ملعب للهو من فارقته ما ثناني نحو لهو ملعب

فالشاعر یصف حنينه في أسلوب غلبت عليه التساؤلات، والغایة منها تذآره للماضي

وتحسره على ما مر من أیامه الملاح في وطنه. فالشاعر عرف الغربة والحنين إلى الوطن

عندما وطئت قدمه أرض مصر فهو یتذآر أیام الأندلس وذآریاته بها في أسلوب غلب عليه

الاستفهام. فنجده یستخدم أدوات الاستفهام (أین- أي؟ - آم).

وفي قصيدة ابن الآبار في طلب نجدة بلنسية، نجده یصور ما حل بها ویتأسف على ما

:( فات من عيش آریم بها قبل خرابها، یقول( 28

فأین عيش جنيناه بها خضرا وأین عصر حليناه بها سلسا؟

فالشاعر حزین على ما ألم بوطنه الذي قضى فيه أیاما سعيدة وعاش أمتع اللحظات

في الأمن والاستقرار، فهو یندب حاضره المریر في ظل سقوط مدینته وخرابها على ید

الإسبان. وآثيرا ما نجد أسلوب الاستفهام في شعر الحنين المتعلق برثاء المدن والمماليك،

وأیضا في شعر الحنين الممزوج بالغزل، وذلك لأن الشاعر یذآر ما عهده من طمأنينة

النفس وأمن البلد ویأسف على تبدل الأحول بأسلوب الاستفهامي یتساءل فيه عن إمكانية

عودة المياه إلى مجاریها وصفاء وهدوء الأحوال بعد العاصفة والنكبة والغم في ظل

الاستعمار الإسباني الذي حول المدن الإسلامية وغير معالمها وشتت شملها وشرد أفراد

المجتمع الأندلسي.

ونجد الشاعر الذي رثى مدن الأندلس إثر توالي سقوطها على ید ملوك إسبانيا، أبو

البقاء الرندي یصف ما أصاب مدن الأندلس في أسلوب أنيق أضفى عليه الاستفهام بصمة

زادته جمالا ودلالة على هول الحدث مدى تأثيره على نفسية الشاعر، إذ یقول أبو البقاء

.283 - 27 - المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج 2، ص 281

. 28 - المصدر نفسه، ج 5، ص 346

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 71 -

:( الرندي( 29

دهى الجزیرة أمر لا غراء له هوى له أحد وانهد ثهلان

أصابها العين في الإسلام فارتأت حتى خلت منه أقطار وبلدان

اسأل بلنسية ما شأن مرسية وأین شاطبة أم أین جيان

وأین قرطبة دار العلوم فكم من عالم قد سما فيها له شان

وأین حمص وما تحویه من نزه ونهرها العذب فياض وملآن

- أسلوب التمني:

لقد آثر تداول أسلوب التمني بين شعراء الأندلس خاصة في موضوع الحنين، حيث

یأمل الشاعر ویرجو عودة الأمور إلى نصابها ورجوع المغترب إلى وطنه وخروج الأسير

من سجنه وعودة المفارق إلى أهله لأنهم عرفوا مرارة الفراق والشوق، فراح آل شاعر

یصف حزنه وحنينه في بدایة قصيدته ثم یختمها بالتمني باستخدامه أدوات التمني (ألا ليت -

لو- هل - یا ليت – ألا...).

وهذا ما نجده في شعر ابن عميرة الذي استخدم عبارة (ألا ليت شعري) متمنيا العودة

:( إلى مدینته بلنسية، في قصيدة بعث فيها إلى أحد أصدقائه یقول( 30

ألا ليت شعري هل لها من مطالع معاد إلى ما آان فيها من السَّعْد

فهو تمني ممزوج بالأسى واليأس الذین دفعا بالشاعر لوصف شعوره الصادق النابع

من نفس متحسرة آسفة تأمل العودة إلى الدیار.

آما وظف شعراء الأندلس أسلوب التمني أیضا في الحنين إلى المحبوب الذي یتمنى

:( الشاعر لقاءه آما هو الحال مع أبي البقاء الرندي( 31

یا سالب القلب مني عندما رمقا لم یبق حبك لي صبرا ولا رمقا

لا تسأل اليوم عما آابدت آبدي ليت الفراق وليت الحب ما خلقا

حيث نلاحظ من خلال البيتين أن الشاعر یتمنى لو أن الحب والفراق لم یوجدا، لأنه

. 29 - د. فوزي سعد عيسى: في الأدب الأندلسي، ص 45

. 30 - المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج 2، ص 320

، 31 - محمد رضوان الدایة: أبو البقاء الرندي شاعر رثاء الأندلس ، مكتبة سعد الدین، بيروت 1986

. ط 2، ص 69

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 72 -

تعذب جراء معایشتهما.

ویقول ابن زیدون مسائلا ولادة بنت المستكفي أن تدوم على عهده، في أسلوب جزل

فهو یرجو ویأمل وصالها في ،« یا ليت شعري » بليغ وظف فيه التمني باستخدام صيغة

:( هذه الأبيات( 32

أضحى التنائي بدیلا من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا

هلا وقد حان صبح البين صبحا حين فقام بنا للحين ناعينا

فانحل ما آان معقودا بأنفسنا وانبت ما آان موصولا بأیدینا

یا ليت شعري ولم نعتب أغانكم هل نال حظا من الغنى أعادینا

یا حبة الخلد أبدلنا بسلسلها والكوثر العذب زقوما وغسلينا

دومي على العهد ما دمنا محافظة فالحر من دان إنصافا آما دینا

فالشاعر في حنينه إلى ولادة یتمنى عودة الوصال والتداني بعد التجافي. وأیضا

الشاعر الأمير الأسير المعتمد بن عباد الذي عرف الغربة والسجن له في قصائد الحنين

تعدد الأساليب فنجده یوظف أسلوب التمني في قصيدة آتبها وهو في السجن ذليل، فهذا دفه

بالشاعر الحزین على حاله إلى نظم قصيدة یذآر فيها أحب البقاع لدیه وأیامه الخوالي، وفي

الأخير یتمنى لو بيت ليلة وأمامه وخلفه روضة وغدیر، فالشاعر یحن إلى عيشة الأمراء

:( في القصور بين الریاض یقول( 33

فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة أمامي وخلفي روضة وغدیر

2 - الصورة الفنية:

حضت الصورة باهتمام النقاد والباحثين، فهي من المفاهيم النقدیة التي عانت اضطربا

في التحدید الدقيق نتيجة لاختلاف تعریفها باختلاف الدارسين، وتنوع مذاهبهم الأدبية، فظل

الغموض مسيطرا عليها( 34 ) "فالصورة الشعریة: تشكيل لغوي یكونها خيال الفنان من

.128 - 32 - بطرس البستاني: أدباء العرب في الأندلس وعصر الانبعاث، ص 125

. 33 - المرجع نفسه، ص 152

، 34 - بشرى صالح: الصورة الشعریة في النقد العربي الحدیث، المرآز الثقافي العربي، بيروت 1994

. ص 19

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 73 -

معطيات متعددة یقف العالم المحسوس في مقدمتها"( 35 )، وقد وضع النقاد للصورة الاعتبار

الأول لكل إبداع شعري لأنها هي في الحقيقة تسمو بالنتاج آلما آانت صادقة مترابطة ناقلة

للتجربة الناضجة في أصالة وعمق، ومفهوم الصورة أشار أليه النقاد العرب القدامى، یقول

.( الجاحظ: "إنما الشعر صناعة، وضرب من النسيج، وجنس من التصویر"( 36

وقد تفنن شعراء الأندلس في موضوع الحنين فبدا شعرهم بليغا بتوظيف الصور

البيانية آالتشبيه بأنواعه والمجاز والاستعارة والكنایة، وذلك لتقویة المعنى والتعبير عن

مدى أثر الغربة في نفسية الشاعر، فذهب الشاعر في وصف الحنين إلى وطنه وأهله وإلى

أیام شبابه بعيدا باستخدام الخيال أحيانا فنجده یكلم الأنهار والریاح ویشكو للطير أشواقه

ویبعث بتحياته لمفارقيه مع النسيم.

أ - الصور البيانية:

فقد اهتم شعراء الأندلس بالتصویر الفني في شعر الحنين، تأثرا بشعراء المشرق،

لدرجة أنهم أسرفوا في توظيفه، آما اعتمدوا الاقتباس من القرآن الكریم والأحادیث النبویة

آما آانت الطبيعة الأندلسية الخلابة مصدر إلهام للشعراء إذ نجد تصویر الحنين متعدد

الأضرب لدیهم، آما هو الحال مع الشاعر الأندلسي عبد الكریم البسطي الذي صور لنا

:( معاناة الفراق في هذه الأبيات( 37

لم أنس یوم النوى والبين آلمتها وقلبها مثل قلبي اليوم مضطرب

ووجهها مثل وجهي واجم فرقا من خطب فرقتنا غيران مكتئب

ودمعها مثل دمعي فوق وجنتها آالغيث منهمر هام ومنسكب

وقد مددت إليها للوداع یدا واستقبلتني بأخرى وهي تنتحب

فالشاعر یصور فراق زوجته، في صياغة فنية تعددت فيها التشبيهات فأورد الصور

متلاحقة مستخدما تشبيه واحدة هي "مثل" آقوله "ووجهها مثل وجهي" و"ودمعها مثل

. 35 - على البطل: الصورة في الشعر العربي، دار الأندلس، بيروت 1981 ، ط 2، ص 30

، 36 - الجاحظ: الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1969 ، ط 3

. ج 3، ص 133

. 37 - عبد الكریم القيسي: دیوان عبد الكریم القيسي، ص 113

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 74 -

:( دمعي" فالشاعر یشابه حاله بحال زوجته لحظة الفراق. یقول ابن دراج( 38

ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا سوى البحر قبر أو سوى الماء أآفان؟

اشتمل البيت الشعري على صورة بيانية تمثلت في التشبيه البليغ "البحر قبر" و"الماء

أآفان" فالشاعر یتساءل متشككا في إمكانية العودة إلى الدنيا، في أسلوب فني بليغ یعبر فيه

عن حزنه وألم الشوق في قلبه.

ب - المزج بين الحنين والطبيعة:

بين وصف جمال الطبيعة ووصف الحنين علاقة وطيدة أدت إلى التمازج والتداخل

بينهما في الشعر، مما أعطى لمسة فنية جمالية لموضوع الحنين ووصف الطبيعة معا، فقد

سحر شعراء الأندلس بطبيعتها، مما دفعهم إلى التغني بجمالها وروعة مناظرها، وهم على

ربوعها حيث ملاعب الصبا ومواطن الذآریات، فإذا ما ابتعدوا عنها، ألهبت الغربة

مشاعرهم ومزق الشوق قلوبهم، فجاءت قرائحهم بالحنين إلى الأرض ومن حل بها من

الأهل والأحباب، ومن هنا مزج شعراء الأندلس بين شعر الطبيعة والحنين حيث افتتح

الشاعر الأندلسي قصيدة الحنين بمقدمة في وصف الطبيعة، یقول أبو المطرف أحمد بن

عميرة المزومي یحن إلى ربوع "بلنسية" بعد سقوطها وابتعاده عنها في أسلوب أنيف مزج

:( فيه بين الحنين ووصف الطبيعة( 39

یحن وما یجدي عليه حنينه إلى أربع معروفها متنكر

ویندب عهدا بالمشقر فاللوى وأین اللوى منه وأین المشقر

تغير ذاك العهد بعدي وأهله ومن ذا علي الأیام لا یتغير

وأقفر رسم الدار إلا بقية لسائلها عن مثل حالي تخبر

فلم یبق إلا زفرة بعد زفرة ضلوعي لها تنقد أو تنفطر

وإلا اشتياق لا یزال یهزني فلا غایة تدنو ولا هو یفتر

ولعل أآثر شعراء الأندلس ولوعا بالطبيعة الشاعر ابن خفاجة الذي عبر عن حنينه

إلى الأندلس وإلى أنهارها وریاضها وبساتينها في شعره الذي صور جمال بلاد الأندلس.

، 38 - إحسان عباس: تاریخ الأدب الأندلسي، عصر سيادة قرطبة، دار الثقافة ، بيروت 1969 ، ط 2

. ص 87

.494 - 39 - المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج 4، ص 493

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 75 -

:( یقول ابن خفاجة( 40

أرقت لذآرى منزل شط نازح آلفت بأنفاس الشمال له شما

فقلت لبرق یصدع الليل لامح ألا حي عني ذلك الربع والرسما

وابلغ قطين الدار أني أحبهم على النأي حبه لو جزوني به جما

وأقرئ عفيراء السلام وقل لها ألا هل أرى ذلك السهى قمراتها

فالشاعر هنا یمزج بين وصف الطبيعة ووصف حنينه إلى محبوبته التي فارقته، مما

زاد أسلوبه رقة، آما أن انتقاءه للألفاظ المناسبة المستوحاة من الطبيعة آالليل والبرق

والقمر ساعد على توضيح المقصود فكان تعبير الشاعر عن ما یختلج في نفسه من مشاعر

الحب والشوق ممزوجا بمظاهر الطبيعة.

ونجد الشاعر ابن حمدیس أیضا یوظف وصف زهرة النيلوفر التي افتتن بها شعراء

:( الأندلس، یقول في غربته( 41

ونيلوفر أوراقه مستدیرة تفتح فيما بينهن زهر

آما اعترضت خضر التراس وبينها عوامل أرماح ألسنتها حمر

هو ابن بلادي آما اغتر أبي اغترابه آلانا عن الأوطان أزعجنا الدهر

فالشاعر من خلال هذه الأبيات یصف حنينه موظفا وصفا لزهرة النيلوفر.

ج - الاقتباس:

ومن مصادر الصورة الفنية الاقتباس من القرآن الكریم، فقد استقى شعراء الأندلس في

حنينهم صورهم نتيجة التأثر بالقرآن الكریم، یقول ابن الخطيب واصفا حالة التغرب والنوى

:( والبعد عن الأوطان على أنها موت أو قتل( 42

إنا قتلنا بالنوى سيان من یجلى عن الأوطان أو من یُقْتَل

فالشاعر یساوي بين النوى والجلاء عن الوطن وبين القتل وهذا ما ورد ذآره في

40 - حمدان حجاجي: حياة وأثار الشاعر الأندلسي ابن خفاجة، الشرآة الوطنية للنشر والتوزیع،

. الجزائر (د. ت) ، ط 2، ص 218

41 - د. إحسان عباس: تاریخ الأدب الأندلسي، عصر الطوائف والمرابطين، دار الثقافة، بيروت

. 1985 ، ط 7، ص 197

42 - ابن الخطيب: نفاضة الجراب في علة الاغتراب، تحقيق سعدیة فاغية، مطبعة النجاح الجدیدة ،

. الدار البيضاء 1983 ، ص 296

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 76 -

القرآن في قوله تعالى: "ولو أنا آتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دیارآم ما فعلوه

.( إلا قليل"( 43

3 - ألوان البدیع في شعر الحنين الأندلسي:

لقد عاش الأندلسيون في بيئة مترفة لاهية وحضارة مزدهرة دفعت بشعرائهم إلى

العنایة بالشعر، وتزینه بألوان الصنعة البدیعية التي تتناسب مع روح العصر السائد آنذاك.

آما آان للتأثيرات المشرقية دور آبير في توجيه شعراء الأندلس التكلف والصنعة في بعض

أشعارهم، فشغلت أساليبهم المختلفة الجزء الأآبر من نتاجهم الشعر متأثرین بالمشارقة، إلا

أنهم لم یسرفوا في استخدامه إسراف المشارقة.

فقد اختلف الشعراء من حيث الصنعة اللفظية، فمنهم من اعتمد في حنينه الصادق

على الألفاظ السهلة المباشرة، ومنهم من فضل أن یضيف إلى حنينه لحنا موسيقى من خلال

السجع والجناس والطباق وغيرها من المحسنات البدیعية التي تزید المعنى إیضاحا

والأسلوب جمالا وقوة، إن حسن التأليف والتوظيف فقد تعددت المحسنات البدیعية في شعر

الحنين، فقد اشتمل على التوریة والجناس والسجع والطباق وغيرها دون مبالغة.

أ - الجناس:

لقد آان شعراء الأندلس مولعين بالجناس، "وهو تشابه بين لفظين في النطق تشابها

تاما أو جزئيا مع اختلافهما في المعنى"( 44 ). وقد تحدث النقاد عن قيمة الجناس في العمل

.( الفني فبينوا أنه إذا جاء غير متكلف تم به المعنى( 45

ویعود جمال الجناس إذا لم یكن متكلفا إلى ذلك الجرس الموسيقي الصادر عن تكرر

الكلمات المتماثلة تماثلا تاما أو ناقصا، الأمر الذي یزید من تأثير الكلام على المتلقي، یقول

:( الملك الشاعر یوسف الثالث في الحنين إلى وطنه( 46

ألا إن لي قلبا یحن لموطني فيا ليتني لو صدق الخبر الخبر

. 43 - سورة النساء، الآیة 66

. 44 - أسامة بن منقذ: البدیع في نقد الشعر، تحقيق أحمد بدوي، مكتبة الحلبي، القاهرة 1960 ، ص 12

. 45 - عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة ، ص 8

46 - یوسف الثالث: دیوان ملك غرناطة یوسف الثالث، تحقيق عبد الله آنون، معهد مولاي الحسن،

.63 - تطوان 1985 ، ص 62

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 77 -

:( ویقول أیضا( 47

أضحى الفؤاد بسيف البين مجروحا ومدمع العين فوق الخد مسفوحا

سقيا لغرناطة والله ما برحت تلقي من البعد في قلبي تباریحا

فقد جانس الشاعر ملك غرناطة بين "مجروحا - مسفوحا" وبين "برحت - تباریحا"

جناسا ناقصا. ومن الشعراء الذین وظفوا هذا اللون من البدیع في شعرهم، حازم القرطاجني

:( معبرا عن حنينه وشوقه إلى وطنه وذلك في قوله( 48

مواقف آم قد حمى الطرف بها عن الكرى وسنان طرق فاحتمى

یختطف القلب بها إن لم یكن خلوا وقلب الخول فيها یختطى

فالجناس باد في آلا البيتين، إذ جانس الشاعر بين (الطرف- طرف) وبين (خلوا -

:( الخول). ویقول ابن سعيد( 49

أحبابنا عودوا علينا عودة ما منكم بعد التفرق مرغب

فالشاعر وظف الجناس في هذا البيت الذي یحن فيه إلى أهله وأحبابه، وذلك حين

جانس بين لفظي (عودوا- عودة) وهو ما جاء عفو الخاطر لأن في أشعار ابن سعيد نادرا

ما نجد هذا اللون من البدیع.

ب - السجع:

وهو من ألوان البدیع اللفظي وهو "اتفاق الفواصل في الحرف، أو في الوزن أو فيهما

معا..."( 50 ). والأصل أن السجع یأتي في النشر، ویأتي في الشعر على نوعين:

- التصریح:

وقد ورد التصریح في بدایة القصائد ومن أمثلة ذلك قول ابن الأبار في حنينه إلى

:( بلنسية ورصافتها( 51

ما للهوى إلا الرصافة مأرب ب عد الغدیر فكيف یصفو مشرب

فالتصریح هنا في لفظي" مأرب" والتي جاءت في الشطر الأول من البيت و" مشرب"

. 47 - المصدر نفسه، ص 22

. 48 - محمد أحمد دقالي: الحنين في الشعر الأندلسي، دار الوفاء، الإسكندریة 2008 ، ط 1، ص 507

. 49 - المقري: نفح الطيب، ج 1، ص 390

. 50 - المصدر نفسه، ج 2، ص 390

. 51 - ابن الأبار: الدیوان، تحقيق عبد السلام الهراس، الدار التونسية للنشر 1985 ، ص 59

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 78 -

والتي جاءت في الشطر الثاني. وأیضا ورد التصریح في قول ابن عميرة في بدایة قصيدته

:( الدالية في الحنين إلى بلنسية( 52

ألا أیها القلب المصرح بالوجد أما لك من بادي الصبابة من بد

فنلاحظ اتفاق الفواصل في الحرف الأخير من صدر البيت وعجزه.

- التشطير:

:( وقد آان التشطير قليلا نادرا في شعر الحنين فنجده في قول حازم القرطاجي( 53

ومنعم بمطعم ومشرب یرضى العيون والأنوف واللها

ومرآب لما نسو مجلس في مدرس ومحضر في منتدى

وملتقم لمرشف ومهصر آمعطف من أهيف طاوى الحشا

هكذا عبر الشاعر عن حنينه من خلال استخدامه للمحسنات البدیعية التي لم یتكلفها،

لأن أآثرها جاء عفویا وليست متكلفا. آما وظف الشاعر الأندلسي آثيرا الطباق والمقابلة

للتعبير عن تقبله حاله من القرب إلى البعد ومن الوصل إلى الفراق.

ج - الطباق:

أما الطباق فهو الجمع بين ضدین في الجملة وهو أسلوب بدیعي من أساليب التحسين

المعنوي، لا یثقل الشعر آما یثقله الجناس غير أن الإآثار منه قد یفسد المعنى، وغالبا ما

یأتي عفو الخاطر وتفرضه طبيعة الكلام ومن أمثلة الطباق في شعر الحنين قول ابن سعيد

:( متشوقا للجزیرة الخضراء( 54

أسهل الليل أغضى لصبح أترى النوم ذاهبا بالصبح

:( طباق بين الليل والصبح طباق الإیجاب. ویقول أیضا( 55

إن الفراق هو المنية، إنما أهل النوى ماتوا وهم أحياء

فالشاعر هنا وظف الطباق للدلالة على مرارة الفراق فوصف أهل النوى بالأموات

52 - ابن سعيد: اقتصار القدح المعلي في تاریخ المحلى، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب اللبناني،

. بيروت 1980 ، ط 1، ص 48

. 53 - محمد أحمد دقالي: الحنين في الشعر الأندلسي، ص 515

. 54 - المقري: نفح الطيب، ج 2، ص 693

. 55 - المصدر نفسه، ص 694

الفصل الثالث خصائص شعر الحنين الأندلسي

- 79 -

:( والفراق بالمنية والطباق هنا بين ( ماتوا - وبين أحياء). ویقول أبو جعفر بن جرج( 56

إن الهوى آتب الآجال في مقال ال آجال من أنس عن وصلنا وحُش

بيض مناذرها سود غدائرها آما تلاقي جيوش الروم والحبش

الشاعر طابق بين (أنس ووصل) آما أن الطباق في البيت الثاني ورد في (بيض وسود).

د - التوریة:

لقد آانت حاجت الشعراء إلى التوریة للتعبير عما یختلج في نفوسهم من شوق وحنين

وألم وساعدهم في ذلك طبيعة الأندلس الخلابة. والتوریة لفظ أطلق على معنيين قریب وبعيد

والمراد هو البعيد.

وقد آثر تداول التوریة، حتى أفرد لشعر التوریة مجموعات شعریة خاصة، ومنهم

.( الشاعر ابن خاتمة في مجموعة الشعریة الصغيرة "رائق التحلية في فائق التوریة"( 57

یقول ابن خاتمة:

إذا ما النوى أذآرت بقلبي جمرة فهاج لنا بين الضلوع غليل

برزت لأستشفي نسيم ربوعهم إذا هب بالأسحار وهو بليل

ومن أعجب الأشياء وهو تعلل طبيب یداوي الناس وهو عليل

فقد ورد ابن خاتمة ب "عليل"، والمقصود بالنسيم العليل أي الطبيب المقبول، للتعبير

عما یختلج في نفسه نتيجة لغربته.

:( ومن مظاهر التوریة ما استخدمه ابن جزي الكلبي موریا بالعروض( 58

لقد قطعت قلبي یا خليل بهجر طال منك علي العليل

ولكن ما عجيب منك هذا إذا التقطيع من شأن الخليل

ففي عبارة "التقطيع من شأن الخليل" توریة: المعنى القریب: الحبيب الذي هجره

وقطع وصاله، ومعناه البعيد وهو أن التقطيع من مصطلحات العروض.

. 56 - ابن بسام: الذخيرة من محاسن أهل الجزیرة، ص 250

. 57 - محمد رضوان الدایة: تاریخ النقد الأدبي في الأندلس، ص 269

. 60 - محمد رضوان الدایة: رائق التحية في فائق التوریة، دار العلم، بيروت 1968 ، ص 37

الخاتمة

‐ 82 ‐

خاتمة

وفي الختام يمكن القول بأنّ شعر الحنين الأندلسي عُرف منذ نشأته بوصف تجارب

الشعراء الذاتية مع الغربة والحنين، وبوصفهم لأحوال الأندلس وأهلها في ظل التقلبات

السياسية والحرب التي انعكست على حياة الأندلسيين الاجتماعية، مما أدى بالشاعر إلى

التراحم معهم والأسى على حالهم، وإلى رثاء الأندلس التي خربها الإسبان.

وخلاصة ذلك أنّ شعر الحنين الأندلسي آان في مجمله يعبّر عن عواطف صادقة،

استوجبت لغة سهلة، وأسلوبا بسيطا، وألفاظا متداولة بعيدة عن الغرابة، آما هو ظاهر من

خلال الأشعار التي وردت في البحث، إذ نجد الأفكار واضحة خالية من الغموض،

والعبارات منتقاة من قبل الشاعر الذي تميّز بالفصاحة والذوق السّليم، وذلك لاهتمام شعراء

الأندلس بالمعاني لإيصال معاناة الشوق والحنين في أسلوب فنّي بسيط وأنيق خالٍ من

التعقيد والإبهام.

فصدق التجربة ومعايشة الشاعر لإحساس الغربة النفسية والمكانية والزمانية أدّى

بأشعاره في الحنين إلى الاتسام بصدق العاطفة دون مبالغة في المعاني أو في التصوير

والصنعة اللفظية، إلا ما دعت الضرورة الفنيّة إليه من ألوان البديع التي تضفي على

القصيدة جرساً موسيقياً يزيد من جمال القصائد ويعزز دلالات معاناة الشاعر وحزنه، آما

أنّ التصوير أيضا يبرز فنيات الشاعر إلى جانب إبراز ما يختلج في صدر الشاعر من

حنين، ونجد ذلك في التشبيهات التي يصوّر بها الشاعر حالة غربته وشوقه في أسلوب فني

متميّز يعبّر عن مرارة التجربة.

التعليقات

';


إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

اسرار ومعلومات وحقائق

2016